التحليل المكاني للربيع العربي – لماذا حصل هنا، لماذا لم يحصل هناك؟ 3 – 3

الكاتب:

27 سبتمبر, 2012 لاتوجد تعليقات

  • ·      الطبيعة الحلقية للتغير السياسي في العالم العربي

لطالما نظر إلى التطورات السياسية العربية في الدراسات السياسية المتعلقة بالشرق الأوسط على أنها تطورات حلقية، بمعنى أنها تحصل في شكل دائري يبدأ غالبا بفشل النظام مما يولد شيئا بسيطا من المعارضة يستجيب له النظام بشيء من الإصلاحات ثم يبدأ تدريجيا في تفريغها من محتواها مما يولد موجة جديدة من المعارضة تليها موجة من الإصلاحات، وهكذا حلقة تلو حلقة، وكلما زادت الحلقات زادت معها قوة المعارضة وتراكم خبراتها. طبعا هذا لا يعني أن السياسة في العالم العربي تسير في مسارات حلقية صارمة لا يمكن الخروج عنها ولكن يمكن القول ان هذا التفسير الحلقي مقبول في دراسة عديد من التطورات والظواهر السياسية في الدول العربية خلال المائة عام الماضية أو أكثر. هذا التصور يعد محوريًّا هنا لأنه يجعل الربيع العربي حلقة ضمن سلسلة من الحلقات السابقة له وليس مجرد حدث صدر من العدم، ويجعله تطورا طبيعيا لمجموعة من التطورات التي سبقته.

والأمثلة كثيرة للتدليل على ذلك، منها على سبيل المثال الحالة الكويتية. في 2006 بدأت الحملات المطالبة بإسقاط رئيس الوزراء (وهو من آل الصباح) بشكل صغير ومحصور تقريبا في البرلمان فقط، وفي 2009 كانت حلقة جديدة حين كسبت هذه الحملات زخما وقوة ونجحت في النزول للشارع وفي استجواب رئيس الوزراء في جلسة سرية بمجلس الأمة. ولذلك في 2011 حظيت الكويت بنصيب لا بأس به من الربيع العربي حيث جاءت الحلقة الجديدة أقوى من سابقاتها وأطاحت فعلا هذه المرة برئيس الوزراء وغيرت البرلمان. فلو تخيلنا أن أول مطالبة لإسقاط الرئيس جاءت في 2011 لوجدنا أنه على الأرجح لم يكن ليسقط بل ربما كانت جهود المعارضة لتستمر سنوات أخرى قبل أن تبني حلقة قوية بما فيه الكفاية لإزاحته من منصبه.

وهذا التراكم الحلقي مرتبط بمسألة الإصلاحات المؤسساتية التي ذكرت أعلاه، حيث يمكن للمراقب أن يرصد بسهولة أنه وقبل الربيع العربي كانت المعارضة في الدول الديكتاتورية التعددية تطالب بإصلاح المؤسسات والقوانين القائمة فعلا، كالمطالب بنزاهة الانتخابات وتوسيع صلاحيات البرلمان وتسهيل إجراءات إنشاء الأحزاب، على حين في الدول الديكتاتورية المطلقة كانت المعارضة في نفس الوقت مشغولة بالمطالبة بمجرد إيجاد هذه المؤسسات والقوانين.

  • ·      الحالة الليبية والسورية

الحالة المسلحة في ليبيا وفي سوريا لهما نصيبهما من التفسير أيضا. فانعدام الممارسة التعددية لا يعني أن النظام سينجح في البقاء للأبد، بل يعني أن البلاد قد تنجرف سريعا للثورة المسلحة والانشقاقات عن النظام. وهذا ما قد يفسر بعض الحوادث السابقة في التاريخ العربي الحديث مع نظم سياسية لم تسمح بأي ممارسات تعددية كالثورة المسلحة ضد حكم سياد بري في الصومال ومحاولات الثورة المسلحة ضد حكم صدام حسين في العراق. وربما يكون هذا أحد أوجه تفسير بقاء الحركات المسلحة ضد حكم القذافي على قيد الحياة منذ نشأتها في الثمانينيات والتسعينيات إلى أن شاركت في ثورة 17 فبراير، في حين انتهت الحركات المسلحة في الجارة المصرية وضعفت إلى أن شاركت في ثورة 25 يناير السلمية، وانخرطت بعدها في العمل السياسي السلمي مثل غيرها من القوى السياسية في الساحة المصرية، علما أن الاثنين قد برزا في نفس الآونة تقريبا وتعرضا للملاحقة الأمنية الشديدة.

وفي سوريا بدأت الثورة سلمية ثم ما لبثت أن دخلت عليها المظاهر المسلحة خصوصاً مع تنامي حركة الانشقاقات عن مختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية. ونلاحظ هنا أن البداية السلمية للثورة السورية قد يكون مرتبطًا بوجود هامش طفيف جدا من الممارسة التعددية قبلها، في حين بدأت الثورة في ليبيا مسلحة من أول أو ثاني أسبوع ولم تشهد قبل الثورة أي ممارسة تعددية تذكر. وقد ذكر تويريل في بحثه أنه كلما زادت هيمنة وسيطرة الحزب الحاكم في الأنظمة الديكتاتورية التعددية قلت فرص الانتقال الديموقراطي من داخل النظام أو كرد فعل على الضغوط الشعبية، وهذا ينطبق على الممارسة التعددية الهامشية في سوريا التي كان حزب البعث يسيطر فيها على مختلف جوانب الحياة.

وزيادة احتمالية الثورة المسلحة في هذه الأنظمة يرجع لعدة أسباب منها الانخفاض حالات تنازع النخب الحاكمة فيصبح قرار قمع الاحتجاجات مثلا أمرًا مقبولا عند كل النخب بالذات لدى النخب السياسية والعسكرية والأمنية، التي تكون على الأرجح قليلة العدد وشديدة التجانس والترابط، وما إن تسقط حتى يسقط كل النظام (مثلما حصل بعد مقتل القذافي) على عكس النظم الأخرى التي قد ينهار رأس النظام وتبقى بعض أطرافه ونخبه (مثل مصر واليمن). ويدرك المطالبون بإسقاط النظام خطورة الوضع عليهم مبكرا وأن النظام لن يتسامح معهم ولن يتعامل معهم باللين مما يجعل المناخ خصبا لتبني خيار التسلح مبكرا لدى هؤلاء المعارضين ولدى المتعاطفين معهم وهذا بدوره يوفر البيئة الخصبة لانتعاش الجهادية السلفية وخروجها من مجرد تنظيمات صغيرة ومستترة إلى تيار يجذب الكثير من الشباب إليه. بل أنا أزعم أن إتاحة شيء من الحريات والممارسات التعددية سيدفع بعض الجماعات الإرهابية في العالم العربي لإلقاء السلاح والتخلي عن خياراتهم العسكرية.

وبالنظر إلى الجداول نجد أن دول الخليج هي الأكثر عرضة لاحتمالية الثورة المسلحة  أو انتعاش الحركات المسلحة إذا لم تبدأ في تغيير نهجها السياسي. وهذا يعطينا زاوية تحليلية أخرى لفهم الحركات المسلحة التي نشأت في عدة دول عربية والبعد الانقلابي فيها، ومنها حركة جهيمان مثلا، حيث إن الانتفاضات المسلحة – كما أسلفنا – لا تعتمد على التأييد الشعبي. فهي كالبذور التي قد تتحول لغابة لو جاءتها ظروف حادة تسقيها.

  • ·      تفسير الاستثناء اللبناني والجزر قمري

الاستثناء الحاصل في جزر القمر يسهل تفسيره فهي دولة لم تنل استقلالها إلا مؤخرا في عام 1975، بل إن إحدى جزر الأرخبيل ما تزال تحت الحكم الفرنسي لأنها الوحيدة التي صوت أغلب سكانها ضد الاستقلال. ومنذ استقلال جزر القمر لم تخرج تماماً من هيمنة الدولة الفرنسية أو بعض المرتزقة الفرنسيين، لدرجة أن أحدهم قاد عدة انقلابات في البلاد واستولى في آخرها بنفسه على الحكم مما دفع الحكومة الفرنسية إلى إرسال قواتها لجزر القمر وخلع الرجل.

إذن هي دولة لم تختبر بعد تراكم كبير في التجربة السياسية وبناء الحلقات التي تحدثنا عنها، مما يفسر عدم دخولها في الربيع العربي بالرغم من وجود الممارسة التعددية. بالإضافة إلى ذلك هناك عوامل خاصة بجزر القمر تعرقل نشوء الحراك الشعبي مثل صغر الحجم وقلة السكان وتوزعهم على عدة جزر.

أما الحالة اللبنانية فهي أكثر صعوبة، وسأطرح هنا عدة تفسيرات محتملة لوجود الاستثناء اللبناني. التفسير الأول يقول أن لبنان تقع ضمن “الاستثناء الحربي” الذي ذكرناه سابقا وصنفنا الصومال والعراق وفلسطين والسودان فيه. ففي نهاية المطاف، لبنان بلد لم تهدأ فيه المشاكل الأهلية من قبل إنشاء الجمهورية، وشهد حربا أهلية ضارية امتدت من 1975 إلى 1990 ولم تنته تبعاتها وجروحها بعد بما فيها أزمات المهجرين داخل لبنان والمهاجرين خارجه (والذين تجاوز عددهم عدد سكان لبنان المقيمين فيه) وتجدد الاشتباكات الأهلية من فترة لأخرى مثل الاشتباكات الأخيرة في بيروت وطرابلس. وفوق ذلك هناك الاعتداءات الإسرائيلية التي بدأت في 1948 ولم تنته أبدا، بل وقبل 30 عام كانت بيروت أول عاصمة عربية تحتلها إسرائيل، وظلت إسرائيل محتلة للجنوب اللبناني إلى عام 2000 ومعها فصيل منشق من الجيش اللبناني يحميها ويدافع عن احتلالها (جيش لبنان الجنوبي)، واشتبكت مع حزب الله مرارا وتكرارا بعد التحرير إلى أن نشبت حرب 2006 التي تلتها أيضاً حالات اشتباك مع إسرائيل ناهيك عن عدم توقف عمليات التجسس واختراق السيادة وخطف المواطنين من على الحدود والتهديد المستمر بالحرب. هذا كله يضاف إليه الوجود العسكري السوري الذي لم ينته إلا في 2005، ودخول عدد كبير من الجيوش في لبنان في مراحل مختلفة (منها الجيش السعودي والأميركي والسوداني والإماراتي وغيرهم) فهل هذه الحقائق تضع لبنان في الاستثناء الحربي؟ ربما.

التفسير الثاني يقول بأن لبنان وقعت في الاستثناء لأنها أقرب النظم العربية للديموقراطية. فالممارسة التعددية في لبنان، مهما كانت سطحية وقاصرة، قد سمحت بوجود انتقال سلمي للسلطة في أغلب التاريخ اللبناني الحديث. فمنذ استقلاله في الأربعينيات شهد لبنان أكثر كمية من الرؤساء ورؤساء الوزراء، وهذا بدوره يصعب تبلور معارضة موحدة ضد النظام، وذلك لأن النظام لا يرأسه شخص واحد يمكن توحيد الجهود ضده مثلما كان الحال في تونس ومصر مثلا. ومن المثير للاهتمام أنه في خضم انطلاقة الربيع العربي تمكنت المعارضة في لبنان من إسقاط الحكومة بشكل قانوني ومن دون الحاجة لتحريك الشارع أو استعمال السلاح. ورغم بعض الاضطرابات وأعمال العنف التي تلت هذه الخطوة، إلا أنها سرعان ما انطفأت وقبل سعد الحريري الرحيل من منصبه وقبلت كل القوى السياسية بتنصيب نجيب ميقاتي كرئيس وزراء لبنان الجديد وما زالوا بعد أكثر من عام يتعاملون معه ولا يشككون في شرعيته، مما قد يعني أن الديموقراطية اللبنانية لم تتحقق فقط بل “ترسخت” أيضا. علما أن التقييم السنوي للديموقراطية حول العالم الذي تقوم به وحدة الاستخبارات بالإكونوميست قد صنفت لبنان على أنه أكثر البلدان العربية قربا من الديموقراطية في تقريرها لعام 2010.

التفسير الثالث للاستثناء اللبناني هو أن الحجم الصغير للبنان وتوزع السكان على أكثر من 18 طائفة دينية وعرقية يجعل تبلور معارضة وطنية متجاوزة للطوائف مسألة شبه مستحيلة. وليس خفيا أن أكبر الأحزاب اللبنانية (حزب الله، حركة أمل، تيار المستقبل، الحزب التقدمي الإشتراكي، القوات اللبنانية، الكتائب اللبنانية، التيار الوطني الحر) كلها مبني على خلفية طائفية ومناطقية أو إحداهما، على حين الأحزاب التي لا يهيمن عليها الانتماء الطائفي دائما أضعف، مثل الحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي. فلا وجود حقيقي للإحساس بـ “نحن وهم” أو “النظام والشعب” وذلك لأن النظام يُبدَّل بين الأحزاب والطوائف القوية، وكذلك المعارضة، فلا يوجد تبلور حقيقي لهوية النظام أو هوية المعارضة، أو الشعب.

  • ·      الاستنتاجات

هناك علاقة واضحة بين طبيعة النظام السياسي في أي دولة عربية وبين احتمالية تعرضها للثورة السلمية أو المسلحة. وكلما زادت الممارسة التعددية كان ذلك أدعى للانتقال الديموقراطي تحت ضغط الشارع وقوى المعارضة، وكلما قلت الممارسة التعددية زاد احتمال الصدام المسلح مع جماعات ترى عدم شرعية النظام.

  • ·      التوصيات

لابد لنشطاء المعارضة الساعيين للتغيير في بلدانهم أن:

1-    يحرصوا على بناء حلقات متتالية من التجربة النضالية.

2-    لا يستخفوا بأي إصلاح يحصلون عليه من النظام مهما كان هامشيا وصوريا، ينتقدونه ولكن يستغلونه لمنح الشعب مزيدا من المكاسب.

3-    يسعوا للحصول على إصلاحات مؤسساتية وموثقة على شكل قوانين مكتوبة.

4-    الحرص على استغلال أي قناة رسمية للمشاركة السياسية مهما كانت هامشية والسعي لتوسيعها وترسيخها.

5-    يمدوا شبكات التواصل مع الكيانات الموجودة في المجتمع باهتماماتها المختلفة: السياسية والقانونية والدينية والرياضية والشبابية والخيرية والفنية والعمالية والطلابية.

6-    إدراك حجم التأثير المنتظر منهم في إحداث التغيير خصوصا وأن نجاحهم قد يعني وأد الاستبداد والتطرف معا، وحقن دماء مستقبلية نحن في غنى عن رؤيتها.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق