الدولة الجبانة: الهلع من مجتمع حسن التنظيم

الكاتب:

10 سبتمبر, 2012 لاتوجد تعليقات

تحضر الدولة أول ما تحضر في وعي الإنسان كفكرة. وكضرورة ملحة لتنظيم الجماعات، ثم تبدأ مرحلة التطور في التفكير حتى تصل لمرحلة الذروة عبر الوصول لوظيفتها الأسمى؛ وهي تحقيق العدالة والرفاه والسعادة للبشر القاطنين في إطارها الجغرافي.

ثمة مجادلات مديدة حول نوعية الدولة والمُهمّة الأساسيّة لوجودها. هل وظيفة الدولة توحيد البلاد والعباد وتحقيق الأمن والأمان، والفصل بين الجماعات الأصلية ومنعها من الاحتراب الأهلي، أم أن وظيفتها تنموية؛ كتعمير الأرض وتشييد البنيان، أو بكفالة حق الإنسان في العيش الحر والكريم في مجتمع حسن التنظيم، أم أن لها غاية ما ورائية تتعلق بالوجدان الفردي فينسحب ذلك بتسليم الفرد بسلطاتها واعتصام الجميع بحقها في الإدارة.

إن هذه التساؤلات وغيرها نطرحها لا بهدف ايجاد إجابة حاسمة ونهائية لها، بقدر ما نسعى لتقريب الوجهات المتباينة سياسياً من الوقوف على تعريف مناسب لنوعية ووظيفة الدولة التي قد نطمئن لمستقبل العيش فيها. إن الهدف الرئيس من وراء هذا النقاش ليس فقط فهم نوع الدولة المتخيلة ووظيفتها بالدرجة الأولى وهو مهم وحيوي وضروري، بل في فحص الوظيفة الحالية التي تمارسها، وتفكيك الخطاب الإيديولوجي للدولة الذي تقبضُ بواسطتهِ على منابع السُلطات وتبرر من خلاله استبدادها، علنا نصل لجذر مشكلتنا اليوم مع تناقض أهداف السلطة المصرحة مع مزاولتها الآنية للحكم، هذا طبعاً إذا ما أخذنا “التنمية” كغاية كما هو معلن في الخطاب العام، فما نعيشه ونلاحظه الآن، هو التهام السُلطة للدولة وسيادتها، وتحويلها إلى مزرعة خاصة لملاكها المخلصين، بحيث لا يكاد يبان من صورة مؤسساتها السياسية والاجتماعية إلا تجاعيد لدولة شمطاء تعكسُها المرآة المصقولة لشعبٍ مُنهك.

في سجالاتنا الكثيرة مع الكتاب الممانعين علانية للديمقراطية في الخليج يجري ابتزازنا بفكرة “الدولة التنموية”، القائمة على رفع البُنيان، وإطعام الإنسان، و ترسيخ السلام للرعايا الذين يتمتعون بما تقدمه السُلطة من هِبات، كبديل عن دولة المواطنة والديمقراطية. وإن هذه الدولة التنموية تكفي الناس عناء مُساءلة الدولة عن حقوقهم السياسية والمدنية، في مقابل التعفف عن المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية الخاصة بهم، وهي في الأصل حقوق كل مواطن يحمل جنسية هذا البلد الذي ولد فيه، دون منّة أوتفضل من أحد. فالدولة هنا كما نلاحظ استعاضت عن تسخير قواها لإحقاق العدالة لأفرادها الأحرار والمتساوون، بمكرمات جرى تغليفها بوشاح “تنموي” مزيف، حيث يتم إيهام الرعايا بأن “الدولة التنموية” نظامها ثري بما يمنع التفكير في الأفضل. بهذا المنطق يُساجلنا الممانعون للإصلاح: ليس ثمة من حاجة للإصلاح والتغيير، أوالتطلع إلى الحرية، ما دمنا نأكل البيتزا، ونحتسي القهوة، ونقود سيارات المرسدس، وسط شوارع تملكنا ولا نملكها.

لكن ثمة حقيقة مدمغة في جبين هذا الاقتصاد الريعي الذي يرجى من خلاله إتمام مشروع التنمية، تتضح حينما نزور نظرية التخلف لرستو (الصناعة لا تكفي وحدها لتصينع بلد متقدم مالم تحقق نمو الوعي البشري) والتي تصف تخلف النظام السياسي في دول الخليج رغم غناه المادي. “إن رأس المال الفائض في الدول البترولية لا يوظف في غايات إنتاجية تنموية، إنما يوزع بلا مساواة، ويصرف في أغراض استهلاكية استعراضية”. إن التنمية التي لا تقود لرقي الإنسان تبقى تنمية عرجاء.

أمام هذه المرافعة المبتورة والقاصرة يُطلب منا الإذعان لممارسة الدولة لحقها المُطلق في إخضاع الرعية قسراً لنظام تسلطي مادامت الدولة توفر لقمت العيش، وتحق الأمن، وهو في الحقيقة خطاب ترهيب لا يتورع عن نشر “الخوف المرضي” من العمل الإصلاحي ومن الإصلاحيين وكل من يرتبط بهم، فيُسجن من يسجن، ويمنع من السفر من يمنع، ويوقف عن الكتابة من يوقف، وتُسحب الجناسي، وتُغتال دعاوى الإصلاح باسم المحافظة على الأمن. وهذا الجُرم في حقيقة الأمر يُخفي جُبن الدولة الشمولية من مساعي المجتمع نحو تمكينه لذاته، والهلع من تحويله إلى مجتمع تشاركي، عقلاني، فاعل وحسن التنظيم، بما يوفر البنية الأساسية لتكوين نظام ديمقراطي عادل.

من هذه المنطلقات التي ذكرنا ومن غيرها تقف “الدولة الجبانة” موقف الشك والقلق من المواطنين ونشاطاتهم المدنية، باعتبارهم مُتهمين في انتظار ساعة المحاكمة. وإن أيّ نشاط أو تنظيم يساعد المجتمع على النهوض والحركة فهو يستبطن تعضيد قوة المجتمع، وهذا بحد ذاته جريمة لا تغتفر. إنّ أيّ تنظيم مدني مهما كان هدفه أو حجمه قد يساهم في تحويل المجتمع إلى مجتمع واعي وقادر على تسيير شؤونه، وإدارة نفسه، فهو تهديد مباشر لوجودها (الدولة الجبانة). من هنا، وبهذا المستوى من التهويل ومن نشر “الخوف المرضي” بين الرعايا، ليس غريباً أبداً أن نجد “الدولة الجبانة” تملك جيشاً من الإعلاميين والإعلاميات، وأسطولا من القنوات الفضائية والصحف المطبوعة تحجب موقعاً إلكترونياً أو صفحة لناشط على مواقع التواصل الاجتماعي خشيةً من خدش صورتها عند المواطنين المذعنين.

تركز سياسة “الدولة الجبانة” على منع المجتمع من النمو والتمكن، ومن الوقوف على قدميه، عبر استراتيجية التوجس من كل فعالية اجتماعية تطور أدوات عدم اتكاله على الدولة، فالمنع هو الأصل في كل شيء؛ لأن هذا الفعل الاجتماعي المدني من شأنه أن يقوي اعتماد المجتمع على ذاته، ويعزز ثقته بكفاءته. فالمطلوب إذاً أن يبقى هذا المجتمع كسول واتكالي، مقعد على أريكة السُلطة، ينتظر ما يجود به مُلاكها النبلاء حتى تنضُب عزيمة التغيير ويستكين لليأس.

إنّ هذه الدولة- أي دولة- ابتكرها بنو البشر لأداء وظيفة دنيوية غالباً، لذا فإن الجماعات التشاركية العقلانية حسنت التنظيم هي المخولة والقادرة على انتخاب شكل الدولة وتقرير وظيفتها الأنسب لهم. إن ممانعة “الدولة الجبانة” للإصلاح تضمر تقويض استنهاض روح المجتمع. وفي ظل المتغيرات الدراماتيكية من حولنا وفي ظل تفشي تفتت الدول وتفسخ المجتمعات، نقف اليوم على أعتاب الدولة بقلق لنتسائل، ما إذا كانت الإستراتيجية السياسية في الدول الخليجية مصممة تصميماً يحقق طموحات أبناءها المنتظرة منذ حين ولو في حدها الأدنى.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق