خطاب إلى الرجل الكبير

الكاتب:

4 سبتمبر, 2012 لاتوجد تعليقات


“أقول بأن ما استفدناه وتعلمناه في تلك الديوانية يفوق ما تعلمناه في أي مدرسة أو كلية أو جامعة من قبل… كيف يمكن لنا أن ننسى فضل الدكتور سعود علينا؟ كيف يمكن لمن عرف الدكتور سعود أن ينساه في غياهب السجن؟”

 فؤاد الفرحان

لكريمة الدكتور سعود الهاشمي: حسناء الزهراني، لأزهاره: عائشة ومريم وعزة وخيرية، لأشباله: محمد ويوسف وعمر وأسامة.

بالحذر اللازم لتوقع مصيبة، أحمل تاريخ اعتقالك لبرنامج حساب الأعمار، في الحياة لا في الزنازين، البرنامج الأصم لا فكرة لديه عن هول خمس سنوات ونصف، حتى يأتيني بدقائقها وثوانيها. هذه القبضة من الظلم، لم تمر سريعا، ليست من فصيلة الأزمان السريعة التي نتعجب منها في المجالس، هذا زمنٌ لعارنا، وإن كان لأمجادك، لجرمهم، وإن كان لنزاهتك.

استشاري طب الأسرة، عضو هيئة التدريس، المدرب، خطيب المنبر، عضو الجمعيات واللجان بالداخل والعالم، مستشار وزير الصحة لحجٍّ ماض، يظهر الآن أنه إرهابي متلفّع بكل هذا الظهور للانقلاب على الحكم. الذي يفتح بيته وقلبه مدرسة ومكتبة ومضافة لضيوف تأتي بهم سيارات الحكومة، تحت أنظار التصوير والتوثيق، نندهش الآن بأنه متهم باستضافة مناوئين للدولة والنظام. الذي ظهر على التلفاز الرسمي، داعيا ومحرضا للتبرع، ثم يتلقى الشكر من وزير الدولة، نكتشف أنهم يصِمونه بجمع التبرعات لتنظيمات إرهابية. شخصيا، أنا مع إرهابك دكتور سعود، مع إرهاب الحافلة المكتوب عليها “هدية الشعب السعودي لأهالي الفلوجة” تحديدا، مع إرهاب لعن الاحتلال وصدّه وتجريمه، أمام كل من زال يعدهم الحلفاء والقوات الصديقة. مع إرهاب صندوق “تبرعوا لفلسطين” في وسط ديوانيتك. مع إرهاب الاتصال على غزة، منطرحا على الأرض، داعيا لهم، مربتا عليهم، إزاء المنابر التي تعلن خلاف ما تدسّ لهم.

أعدّ يا دكتور سعود من يعرفك، من يذكرك، من يغصّ إذا تذكر محكوميتك، أشكر الله، يوم أجد يافعا لا يقرب لك، لا يجد صورة لنفسه أرفع من صورتك. غبتَ سنين عن أسرتك، ها هم الآن ينضجون في غيابك، حين تخرج؛ ستشعر أن كفًّا من نورك، كانت تربت على أكتافهم، ستفخر كثيرا بهم، وأنت فخر كلك، من أول مسعاك الصادق، إلَاكَ الآن، صادقا ثابتا لخيارك. الصمت يتكاثف حولك، بعض الحناجر يئست من مدّ أصواتها، لكن ليس بعد، لم يتم البلوغ لشيء، الاعتقال الذي وصفته الأمم المتحدة بعد سبعة أشهر منه بأنه “انتهاكا خطيرا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، هو عنيد ومجرم حقا، ويحتاج لأشرس المطالبات السلمية. سئمنا الولولة لحاضر، نود الشكاية لغائب كبير مثلك، المقطع ذاك الذي سجلته حين شعرت بإرهاصات أذيتهم، لو خرجت الآن أو قبل عام، أو عامين حتى، لرأيت كل ما لأجله دخلت، ولن تفعل غير ما فعلت، إنما نحن نتسمّر أمامها، ونلهو. ليس هذا تعزيةً لك، إنما هجاء لنا.

سنظل نصرخ حتى آخر معتقل، في آخر زنزانة معدة للرأي، إن القضية لا تنتهي بسجين واحد، إن أحمال الحرية لا توضع، ريثما يضع سجين صرّته في داره. إن يخرج معتقل نعرفه، فهناك ألف في العتمة لا نعرفهم. لا عيد بخروج معتقل هكذا، بالمزاج، استغرقْ إثر الخبر، في أنهم لو أدخلوه ثانية من وقته، لما صدهم أحد، فكرْ بحقد: من يعوّض السجين عن دهور الحبس، عن مذلة القيد. لا فرحة غامرة بخروج معتقل، لسوى أهالي المعتقل. 

أود أن أضحك، على الطيب الذي صاغ “نظام الإجراءات الجزائية”، ماذا كان يظن بطواغي الوطن وعساكره الجلاف ليصوغ لهم هذه الأشياء المؤدبة، نحو المارقين المحتملين، مهدّدي سلم الوطن، ومقوّضي حضارته، وأمنه وأمانه. رغم البنود المهينة والمخالفة، والمجرّمة قبل سبق الجريمة، فإننا نطالب به، لبعض الوقت، نهدرُ في وجه زوّار الفجر المحتملين، أن يأخذونا بالرفق، لا تهجموا على المنازل، لا تطوقوا الحي بكتيبة مسلحة، لا داعي لإحضار السيارات المصفحة، لرجل بثوب بيته وفي يده “آيفونه”، لا تحبسوا الأم المفزوعة في حجرة مع سجانات جلفات، لا تسرقوا الأجهزة، لا تقلبوا الأثاث، لا تعصبوا عين المعتقل، ذراع واحدة كفيلة بجره إلى سيارتكم، لا يحتاج الأمر إلى طرحه أرضا، إلى ركله، إلى إلقاء دنيء شتائمكم، لا ترموه منفردا في زنزانة، نادوا له محققا فورا، ليخبره بجنايته، قولوا لأهله أين خطفتموه، قدروا مدة للاعتقال، تشتكي من وعودكم الدهور، ومن منتهي المحكوميات من سنة “اسكت”، ويقبعون إلى الآن. نعرف أنكم لات التجسّس، وعُزّى القبضة الأمنية، ومناة صفقات الأسلحة، التي تنعش اقتصادات الدول البعيدة، إنما لسنا نحن الوجهة الصائبة لبسالتكم.

ولخراب الأنظمة ومنظميها، يغدو المعتقل بغير القانون “قانونيا”، أخبر من كل جوقة الادعاء العام، يضرب المعتقل عن الطعام، لنظام يطمره المحقق، وينزله عليه بسياطه. تتصل أمّ معتقل مسنّة، على برنامج، وتخبر المقدّم عن الخروقات القانونية لاعتقال ابنها، بتفصيل لا يفهمه سدنة معابد الحكومة. لأخت معتقل، تترك كل الشواغل التافهة للداتها، لتنبري ناشطة حقوق لأخوة الجميع، على صدرها نيشان ناشطة حقوقية، لم يمنحه إياه أحد، تصدأ عنده زيف وقصور فَهم ناشطات الجريدة، مرافقات حفلة الأميرة الخيرية. لطفلِ معتقل، اعتاد منذ مجيئه أن يطالب بوالده المغيّب، أن يمثل لغياب والده في الصور والتوزيعات والمقاطع، تزدري كل هذا الخراب، الذي يسمّونه “تربية وتعليم”. علّمهم الغياب، أنضجهم الظلم، ثم يأتيك باردا متكئا، ينصح الأهالي المحترقين بالتأني والتؤدة، ريثما يحك السجان شاربه عن نزوة إفراج.

لا أرفع كفّا لأجل دعوةٍ لمعتقل، ليس لأنها آثمة ولا ترفعها لنفسها، لكن لأن الله ليس شماعة الخانعين والمتعاجزين، وأن تأتي من أمجادك وسموقك لتشارك مصيبة حبسٍ بدعوة، فليس هذا حلا، اذهب “الله يفرج عنه”، إلى سجّادتك، وتذوّقها قبل أن ترخي يدك، ربما هناك تجدها حارة، لا بالبرودة التي تأتي بها لمجمعنا. لن يحدث أن يرتجف السجان من دعوتك، ويفتح مباشرة باب الزنزانة. قبل أن تدعو الله بخنوع، ادعُ بشجاعة الذين فعلوا هذا ليكفوا، أو ادعُ عليهم. لو كنتُ شيخا من أولئك، لقمت بوظيفة رضوان ومالك بينكم، لأخبرتكم: “أمم الدعوة للمعتقل، هكذا فقط دعوة!، أحسبها وأنا حسيبكم صدَقة طفيفة من كلمة طيبة فقط”.

من أيامٍ؛ وأروى بغدادي تنزف لنا ضحى حكايا، ليست كالتي يتداولها نسوة الحي ضحى، حكايا السجن الرهيب، إلى أي درجة يمكن أن تكون قيمة الإنسان صفرا في بلادي، بل أقل. اتفاق الشرائع والضمائر على عدم المساس بالنساء والأطفال والشيوخ، لا يبدو أن له أثرًا ظاهرًا، إن أعتى مجرمي “المافيا” يتورع عن إلحاق الأذية بامرأة، بامرأة فقط، ليست مكلومة، لا تسمع صراخ أطفالها من الزنزانة الأخرى، لم تأخذ عنوة موجة عاتية عائلتها بخدمها وحشمها. آذتنا أروى، فضحتنا، حتى سجّانها العاهر استحى من انكشاف عورته بهذا الشكل، فهددها “بالشيل”. جرحت خيالي أروى، حين عرفت عن سجنها وأطفالها، ونسوة غيرها، لم أتخيل سوى زنزانة معتمة هادئة لأم وحولها أطفالها، تحاول أن تمرر عليهم الوقت باختلاق الحكايات، هناك في الركن بعض ألعاب، سيارة مكسورة العجلة، ودمية مخلوعة الذراع، إنني أستحي الآن من حزني القديم على هذه الصورة البريئة، أطلب الغفران لأنني ظننت سجن الطفولة من أجل أسباب تربوية وتقريبا من الوالدة، ليس أبدا كي يحدث تشنج طفل بضرب رأسه على الجدران، ليس أن يرى رضيع أمه تجر بالنواصي، وتسحب بالأقدام.

القصة تقريبا ليست هنا، لكن أن تأتي نعلة حكومية، بحقارة سفّاك خارج من مجزرة، تستطيع أن تتندر، أن تكتب ضحكة بلهاء من أجل عبارة قالتها أروى، ويطلب تفسيرا لها، ويصفها بالسخافة، ضاربا عن كل الجرائم التي لحقت بها. لكن ماذا نفعل، ليست الصحف صحفنا، ولا القنوات قنواتنا، كلها لهم، هم أهدر من بوق، وأطوع من سجادة مفروشة. أيام محاكمتك، كلهم رضوا ووافقوا، أن تكون ورفاقك “خلية الاستراحة”، وأنت المشهور الذي انكشفت نيات انقلابك، زخرفوا بيانات الداخلية الموزعة عليهم ببعض الرتوش، وأنزلوها بصورهم وأسمائهم، حتى الآن هم تحت وضع الائتمان على الصحافة، الحقيقة.

أعرف ولم يخبرني أحد، أن تنكيلهم بك لصلابة بك، لثبات، أنك لم تتراجع فِترا عن القضايا التي أدخلوك لأجلها، أن الحكم الدنيء عليك، لأنهم لا يريدون “سعودا” آخر. السجن فكرة دنيئة لإنسان ضيق الأفق، لغرور إنسان بالحديد والإسمنت، لم يفهم في الإرادة والصمود وتحولات الأيام، نتذكر النبي يوسف الذي بحكمة الرب لبث في السجن بضع سنين، لأجل فتى نسي أن يذكره، وفي ابن تيمية وابن حنبل وسيد قطب والمودودي وغاندي ومانديلا، ووزراء حقبة العرب ورؤسائه الجديدة، دروس سجن بازغة، لما أراودا أن يغيب فأشرق، أن ينتهي، لكنه ابتدأ إلى الأبد. سليل البيت النبوي، إنك أعرفنا ما لا بد أن يلاقي المؤمنين حقا، ماذا لقي جدك الكريم، المرسل من السماء، في سبيل الشريعة.

يقتات السجن على أشراف الناس، هناك حد لقامة معينة يسمحون لك بالوصول إليها، وبعد هذا يجتزّوك، لا يرحبون بوجودك، لهذا؛ الحر الأصيل هنا، لا يكون إلا منكّلا بالسجن، أو منفيا خارج أرضه، أو منفيا داخلها بالتهميش والتضييق والتخويف، وقصف جهده، وتضييق رزقه. غير ذلك؛ فتعرفها يا دكتور سعود، السنابل التي تمد نفسها إلى السماء، بثقة، بادعاء، ثم تفتحها، لإغراء الانتفاخ، فلا تجد غير الهباء، الفراغ، وستنتبه عندها للسنابل المثقلة ببذورها، محنية للأرض بكلّ هدوء العارف. يكتب صاحب كراء نشر، للكتب الفارغة، عن عدم استعدادنا للديمقراطية، كأناس مشوهين جينيا، نعاني آثار الطفولة البشرية للاختيار. وآخر خائط مشاعر ناعمة، يرفض ما لا يشرعه أسياده، من الحرية وإجراءاتها، لأنّه يتَمجّد بشرب قهوة قريبا من ماخور فندق، وتسديد فاتورة من تطبيق، وأبراج ارتفعت بأساسات في آبار الزيت. في بيولوجية منحطة، ترفضها عوالم الحشرات. لسنا الرعاع الذين يظنون، وفرد من الذين ينعتونهم بالبسطاء، أثرى وأرحب أفقا منكم، معاشر المعرفة المجتزأَة. البساطة التي يحتقرون، لأنها لم تمش على سجاد التملق الأحمر، ولأن أسيادكم، في نهاية المطاف، يتركون لنا أشياء صغيرة وطفيفة، لا تكفي لصنع الأمجاد التي تقدّرون.

الخجل يعتريني يا دكتور سعود، أحسب كم كلمة كتبت لأتوقف، تفاديا لضجر القارئ. أطوف على آثارك من ليلتين، لأنصب شاهدةً على ألفين ليلة من التغييب. ها الأمل، يحرفني من هاء غيبتك، إلى كاف خطابك، أود أن أجعل كلامي عاما، كشموليتك للأطياف والمذاهب، فأجده يتخصّص بك. كنا نتحسس من الفرح بالأعياد لأجل فلسطيننا وأفغاننا وعراقنا، الآن يجب أن ينصحنا الشيخ بأن الحزن للأقرب بالمعروف، وداخل الحدود، أوفر أجرا، وأكرم محتدا. عارٌ أن نتجاوز غمّة الإهانة، لأنهم أقعدوك في غرفة شديدة البرودة ل 96 ساعة، بملابس داخلية، لتفك إضرابك، وتوافق على اتهامك، لأن والدتك حبتْ على أربع لتصل إليك، لأنهم ضربوك، لأن غشمة الزمن السافل ضربوك، تعرضت للضرب المبرح، سجنت انفراديا لثلاث سنوات، لأنه…، لأنه لا نعلم عن طيّات الجور، لنا شهقتها، وللرازح تحتها أنتها، لنا حكْيها، ويدق إسفينها في عِرقِ المصاب بها. لأنه يكفينا عارنا مُعنْونا، لا مُفصّلا. “هللويا” أيها الناس، دكتور سعود حر، دكتور “سعود.. سيعود”، إنما نحن من يعشّش بنا العار، من يكبّلنا القيد، و”يستكلبنا”.

لكلِّ الذين صادقوا دكتور سعود، للذين زاملوه في مرافأ عمله الكثيرة، للذين تطببوا في عيادته، للطلاب الذين درسهم في الجامعة، للجموع التي استقت من ديوانيته، للجيوش التي دربها في أكثر من 350 دورة له، للذين شاهدوه واستمعوا له، للذين استضافوه في برامجهم، لأنصار الحرية، لمن يستطيع أن يقول “لا”، لمن يجد حرقة “لا” ويتكبد ثقلها، أمام الذين يدينون ب”نعم”. هذا وقتها لنبيلٍ ستدينكم حريته، حينَ تكتمل. 

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق