الاستعباد القانوني

الكاتب:

1 يوليو, 2012 لاتوجد تعليقات

في الوقت الراهن الذي أصبحت عبارة “القانون يقول كذا” سدا سميكا أمام أي عمل إصلاحي, وهذه العبارة _وهنا الخطر _ في طريقها إلى  أن تكون جزءًا من تكوين عقل الفرد ويحب أن يتكئ عليها الكل من “السكوريتي ” الذي يصد شابا من دخول متجر ما، إلى قمة الهرم الإداري الذي يصد بالقانون أي عمل إصلاحي يريد الحد من سلطته, مكمن القوة في هذه الحجة أنها تدعي أنك إذا خالفت هذا القانون سنرتد إلى دولة “اللاقانون” حيث السرقة والنهب والقتل؛ فالقانون هو الذي يحمينا من الفوضى وهذا محل اتفاق بين غالبية المدارس الفلسفية ما عدا -ربما- بعض “الأناركية ” وبعض “الماركسيين” (1) الذين يعترفون بأن هنالك فترة معينة يجب أن يغيب فيها القانون حتى تنتقل الدولة إلى “النموذج” الذي يطمحون إليه, لكن معظم الفلاسفة كانوا يختلفون فكريا مع القوانين المسنونة في بلدهم لكن مع ذلك كانوا خاضعين لها ومطيعين لأحكامها حتى الليبرالية تنص على وجوب طاعة القانون (2) وسقراط شرب السم تطبيقا لإرادة القانون رغم أنه لم يعتقد أنه ارتكب جرما يستحق عليه الإعدام.

وطاعة القانون ليست نابعة من اعتقاد الفرد بأنه قانون صحيح بل من اعتقاد الفرد بأنه جزء من جماعة و يجب عليه أن يتخلى عن جزء من حريته الطبيعية -ما قبل الدولة, وما قبل القوانين- لأجل هذه الجماعة مقابل أن هذه الجماعة تقوم بمهام مختلفة لصالحه مثل حماية ممتلكاته وأنها تقبض على من يعتدي عليه وغيرها, إذن هذا العقد الاجتماعي هو ما يجعل الفرد يطيع القانون حتى لو لم يؤمن بأنه “حق” وصحيح, بالإضافة أنه -قطعا- يعلم بأن القانون الآخر البديل الذي في عقله ويتمنى تطبيقه هنالك من يخالفه من خصومه, فلو قرر كل شخص اختراق القانون الذي لا يعجبه لاشتعلت نيران الفوضى, فطاعة القانون هي ضريبة طبيعية لانخراطنا في مجتمع يضم أشخاصًا مختلفين لديهم رؤى وأفكار بل مصالح متضاربة فمن الطبيعي أن يكون لكل قانون مؤيدون ومعترضون، فلذلك طاعة القانون ضرورة من هذه الناحية وليس لاعتبار أنها حق أو باطل دخل في ذلك.

لكن سنقع في مأزق وجودي لو توقفنا عند هذه النقطة إذ أن كل مستبد قد يستخدم حجة القانون لإخضاع شعبه وإعاقة كل عمل إصلاحي فمن السهل على كل مستبد أن “يقنن” استبداده، ويصبح مستبدا وفق القانون والضوابط الشرعية!  وهنا يجد المواطنون طريقين لمقاومة القانون؛ الطريق الأولى: الطريقة الراديكالية وهي الطعن في شرعية مُصدر القوانين ويجب أن تسقط هذه السلطة المصدرة للقانون باعتبارها سلطة غير شرعية أصلا أو هي شرعية لكن لا حق لها بإصدار القوانين, وهذه هي الثورة فالقانون المصري يجرم محاولة إسقاط الرئيس المصري خارج إطار الانتخابات وكذلك مانديلا فهو سُجن 28 سنة بحكم القانون والقضاة أصدروا هذا الحكم عليه بموجب القانون والدستور, فهو ثار ضد هذه القوانين الظالمة التي تقنن للطغيان والفصل العنصري, فالخروج على القانون الظالم ليس مذمة ولكن وجود مثل هذا القانون هو العار, المنهج الثاني الذي يسلكه المواطنون هو الضغط على الجهة التشريعية لإيقاف العمل بالقانون أو إصدار قانون معين؛ فالمواطنون حينما وافقوا (3) على أن يكونوا جزءا من الدولة وبناءً عليه فوضوا “جهة ما” على أن تكون مسؤولة على إصدار القوانين وأنهم سيطيعونها ويتخلصون من جزء من حريتهم الطبيعية لم يفعلوا ذلك مقابل لا شيء، فكان المقابل الذي يُثبت حريتهم هو قدرتهم على الاحتجاج والاعتراض واستخدام وسائل الضغط السلمية لتغيير القانون ولا حاجة لذكر أن دخول مواطن معين إلى مسؤول معين وأن يسر له في إذنه دون أن يشاهده أحد آخر إلا الشيطان أن “القانون رقم كذا” ليس من الصالح العام إن هذا الفعل  ليس اعتراضا, ففي النهاية حتى لو فرضنا أن هذا المسؤول يخاف على البلد ويتمنى لها الخير وليس له مصلحة شخصية في استمرار القانون فإنه وبحسن نية يرى أن هذا القانون فيه المصلحة ولا يرى المفاسد التي يراها المواطن فلكل واحد عقله ورؤاه وفي النهاية المرجع لأغلبية المواطنين الذين يشتركون في الحياة على هذه الأرض,  وحتى وإن قال الأغلبية نريد هذا القانون, لا يعني ذلك الكف عن الاحتجاج , فلذلك أنا أقول أن طاعة القانون واجبة وعصيانه يؤدي إلى الفوضى، لكن بشرط أن يكون هنالك قانون “أعلى” من كل قانون آخر يعطي الحق للمواطن أن يعترض ويحتج على القانون ولن أبالغ لو قلت إن غياب هذا القانون “الأعلى” الذي يبيح الاحتجاج على القوانين لا يصف مجتمعا من “الأحرار” وإنما من العبيد, فمثل هذا المجتمع هو مـُسْتعبد، لكن قانونيا!

وأختم بمقولة المفكر الليبرالي فرانسو غيزو الذي قال بعد استبداد الأغلبية في الثورة الفرنسية ((إن الإنسان الذي ولد لكي يطيع القانون الصحيح محكوم عليه بأن يعمل من أجل البحث عن هذا الأخير أو من أجل ضمان سيادته, ويجب عليه أن يدافع عن حريته ضد السلطة غير الشرعية, وأن يدافع عن السلطة الشرعية ضد حريته الخاصة )) (4)

 

1-      انظر حنة أرندت “في العنف” ص 12 ط 1 دار الساقي .و لنتذكر مقولة ماو تسي تونغ زعيم الصين الشعبية “السلطة تنبع من فوهة البندقة ”

2-      انظر الفلسفة السياسية في القرن التاسع عشر والعشرين ص 62 ط 1 مركز دراسات الوحدة العربية. ومقصود الليبراليين طاعة القانون مع حق الاحتجاج عليه واستمرار البحث عن القانون الصحيح .

3-      طبعا الموافقة هنا “تخيلية” ونحن نحتاج إلى فرض الموافقة حتى نقول إن المواطنين لم يُغصبوا حقا لهم وإنما شكلوا الدولة بمحض إرادتهم ورضائهم ولذلك لنثبت سيادتهم على الدولة ففرض “الموافقة” ضرورة لكيلا يكونوا عبيدا.

4-      الفلسفة السياسية في القرن التاسع عشر والعشرين ص 63 ط 1 مركز دراسات الوحدة العربية.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق