ملتقى النهضة:الربح والخسارة

الكاتب:

29 مارس, 2012 لاتوجد تعليقات

يمثل ملتقى النهضة الشبابي تجمعاً لشباب وشابات من الخليج يهتمون بقضايا النهضة،ويعقدون ملتقاهم مرة واحدة في السنة للنقاش والحوار حول المسائل المرتبطة بمفهوم النهضة،والتعرف على بعضهم وتكوين صلات تعاون بينهم،ويمثل حالة فريدة من حيث التنوع وقيام شباب بتنظيمه والإشراف عليه.عُقِدَ المؤتمر الأول في البحرين،وكانوا في الغالب شباباً من خلفية إسلامية،ثم عقد المؤتمر الثاني في قطر وتوسعت دائرة المحاضرين فيه لتشمل أطيافاً فكرية أخرى،وكان برنامج المؤتمر الثالث في الكويت يحوي تنوعاً أكبر لتيارات وأطياف مختلفة كمحاضرين ومشاركين تناقش مفهوم “المجتمع المدني”،لكن هجمة تحريضية منظمة قادتها قوى متشددة دفعت الداخلية الكويتية لإلغاء الملتقى،فنشط شباب كويتيون لإقامة بعض مناشط الملتقى تحت عنوان “ملتقى المجتمع المدني” في جمعية الخريجين هناك.

اعتبرت مجموعة من السلفيين الحركيين ملتقى النهضة معركة بالنسبة لها،وخاضت حرباً شرسة استخدمت فيها كل الوسائل لمنع إقامة الملتقى،وبالتنسيق مع مجموعة من السلفيين الموتورين في الكويت تم الضغط على الحكومة الكويتية لمنع الملتقى،ورأت في هذا الأمر انتصاراً لها في سلسلة معارك تخوضها منذ فترة لإثبات الذات في ظل المتغيرات المحلية والعربية.

من المهم التأمل في تفاصيل الهجمة الشرسة ضد ملتقى النهضة والشيخ سلمان العودة (المشرف العام على الملتقى)،فهي تكشف مجموعة من الأدبيات والاستراتيجيات التي يقوم عليها نهج هذه المجموعة من السلفيين الحركيين ويستخدمونها في معاركهم،وهذه الاستراتيجيات تفضح تناقضاتهم كما تفضح تشريع الممارسات غير الأخلاقية من منطلق براغماتي نفعي يتم تغطيته بشعارات دينية.

الاستراتيجية الأولى هي التضليل والكذب،ويتم هذا الأمر عبر تشويه الخصوم من أفراد أو مؤسسات باقتطاع كلمات معينة من سياقها وتحريف معناها،أو بتقديم معلومات كاذبة حولهم.حصل اقتطاع الكلمات من سياقها مع هالة الدوسري ضيفة الملتقى في تغريدة لها في “تويتر” حول الإنجيل،وحصل إعطاء معلومات كاذبة مع ضيف الملتقى توفيق السيف الذي زعموا أنه كان عضواً في حزب الله الحجاز،وحصل الأمران معاً لهما ولغيرهما من ضيوف الملتقى والقائمين عليه.

الاستراتيجية الثانية هي التشنيع على الخصوم بعلاقتهم بالآخر غير السلفي،وهنا تفنن السلفيون الحركيون في الهجوم على الملتقى وعلى الشيخ سلمان العودة تحديداً من هذا الجانب،فاعتبروا استضافة الملتقى لليبراليين (خالد الدخيل وهالة الدوسري) ولشيعة (توفيق السيف ووليد سليس) ولإسلاميين مختلفين (عبدالله المالكي) ول”كفار” (ستيفان لاكروا) جريمة تستحق إدانة الشيخ العودة والملتقى بشكل عام ويمكن توظيفها في إحراج العودة أمام جمهوره وعامة الناس.

بمقاييس عصرية وتقدمية يعتبر انفتاح الملتقى والشيخ العودة على الأطياف المختلفة فكرياً ومذهبياً ميزة تحسب له وشهادة له بالبعد عن الطائفية وبالتسامح الديني،لكنه بمقاييس التيار السلفي الحركي أمر خطير وجريمة كبرى،فالأدبيات الأساسية التي يقوم عليها هذا التيار تشدد على احتكار فهم الدين وإقصاء المختلف مذهبياً وفكرياً،وبالتالي تكون كل دعوة للتعايش بين أهل المذاهب والأفكار المختلفة عدواً لهذا التيار يجب التصويب عليه بعنف.

يجوز القول إن هذه الجزئية بالذات تكشف “مآلات الخطاب السلفي الحركي”: يتم استخدام الإقصاء في حق الآخر البعيد،ثم يذهب الإقصاء باتجاه القريب فالأقرب عندما تظهر اختلافات معينة صغيرة أو كبيرة،ويتم هذا على أساس احتكار الحقيقة وفهم الدين،وفي النتيجة يذهب هذا الخطاب باتجاه معاداة الديمقراطية والتعددية و..المجتمع المدني.

يثير الاستغراب بعد هذه الهجمة أن ينتقد السلفيون الحركيون ملتقى النهضة لكونه لم يستضف سلفياً من تيارهم ضمن المتحدثين،ويظهر هذا النقد في سياق مطالبة الملتقى بإبراز تنوع حقيقي لا وهمي،والمثير للدهشة أن المطالبة بالتنوع تأتي من تيار إقصائي يقيم مؤتمرات علنية هدفها ضرب التنوع كالمؤتمر الذي عقدوه حول “خطر الرافضة”،وهو لم يقم بدعوة أي ليبرالي أو إسلامي غير سلفي وغير مرضي عن فكره من قبلهم لإلقاء كلمة في أحد مؤتمراتهم.

تزول الدهشة مع أجوبة يقدمونها سريعاً،إذ يقول أحدهم بوضوح إنهم لا يعترفون بالآخر وسيعملون على إلغائه عند تمكنهم،ويقول آخرون إنهم يحاسبون “غلاة الحرية” وفق منهجهم،وبالتالي عليهم إعطاء فرصة للسلفيين،وليس علينا إعطاؤهم فرصة بحكم أننا لا نؤمن بالتعددية.بمعنى آخر:حديثكم عن تساوي الفرص للجميع وحق الحرية للجميع أمر يخص منهجكم،أما منهجنا فيملي علينا انتقائية الحرية وفق مصلحتنا الحزبية الضيقة،والعمل على عدم تساوي الفرص بكل وسيلة ممكنة (ويدخل فيها طبعاً الوسائل غير الأخلاقية).

عملية محاكمة الملتقى والقائمين عليه وفق منهج الحرية الذي يؤمنون به جاءت أيضاً في غير محلها وتم استخدامها بشكل يفتقر للذكاء،فالملتقى ليس ملزماً وفق منهج الحرية والتعددية إلا بالقول إن للجميع حق إقامة المناشط التي يريدونها وقول ما يشاؤون،لكنه ليس منتدىً للحوار الوطني كي يُلزَم بدعوة جميع الأطراف (ومع ذلك تم دعوة سلفيين ولم يستجيبوا)،ولا يتناقض مع التعددية أن يقيم نشاطاً يناقش فيه أفكاراً يؤمن بها ويدعو من يرى أنه يخدم هذا النشاط للحديث عنها.

تعتمد الاستراتيجية الثالثة على إعلاء الصوت بالحديث عن خطر فكري على المجتمع ينتجه الخصوم،والتحذير من عمل يخرب عقول الشباب والشابات،ويغسل أدمغتهم،وقد تم استخدام مصطلح “غسيل المخ” تحديداً في هذه المعركة.عدا عن دلالات احتقارٍ لعقول الشباب والشابات وبيان حاجتهم لوصاية فكرية عليهم كي لا ينحرفوا،تقدم هذه الاستراتيجية دليلاً واضحاً على ضعف حجة هذا التيار،وخوفه من مواجهة الفكر بالفكر،واعتبار الشريعة عصا يتم استخدامها في وجه المختلفين عوضاً عن محاورتهم،والأهم أن هذه الاستراتيجية تعكس خوفاً حقيقياً من التحولات الفكرية الجارية في المنطقة والتي عملت الثورات العربية على تسريعها،وقلقاً جدياً من تسرب مجموعة من الشباب من التيار إلى فضاءات فكرية أخرى بفعل هذه التحولات.

إن المشكلة الحقيقية التي تدفع السلفيين الحركيين لاعتماد خيار التهويل من أخطار فكرية على العقيدة كاستراتيجية شبه وحيدة تحكم عملهم وحركتهم في الوقت الحالي هي غياب المشروع والرؤية للبلاد والمنطقة والعالم،والتخبط في تقديم أجوبة على المسائل الكبرى المطروحة في الواقع العربي والإسلامي وتشغل بال الشباب السعودي والعربي،لذلك يتم تغليب الهامشيات على الأساسيات،وبحكم منطلقات التيار وأدبياته يتم رفض كل ما يتصل بقضايا التعددية والديمقراطية والحريات العامة،فتُخَاض المعارك ضد الاختلاط والتعددية الفكرية في معرض الكتاب ويتم الإغراق في التشنيع على كل مختلف،وهكذا يظهر هذا التيار وهو يصارع تحولات لا يفهم طبيعتها ولا يدري ما الذي ستنتجه،فلا يعود يفكر بغير شد عصب الأنصار والأتباع في مواجهة مخاض التحولات هذا.

يمكن ملاحظة استخدام كلمة “غسيل المخ” من قِبَل من يرفضون كل نشاط لا يوافق هواهم بغرض الحفاظ على “عقيدة المجتمع وأخلاقه” ويريدون احتكار منابر الحديث في المجتمع لتوجيهه على هواهم مما يطرح أسئلة من قبيل:أليس هذا نوعاً من الوصاية الفكرية؟،وهل يمكن تسمية احتكار المنابر في المناشط الطلابية المدرسية والجامعية نوعاً من “غسيل المخ”؟،وكيف يخشى هذا التيار من ملتقى معلن يطرح ندواته في الانترنت للتداول العام؟،ولماذا يرفض هذا التيار الاتهامات التي وجهها الليبراليون الإقصائيون له بغسيل مخ الطلبة ثم يعيد توجيهها لملتقى النهضة؟.

تنتهي الاستراتيجيات عند الاستراتيجية الرابعة التي عبرت عن ذروة الهجمة الإقصائية ضد الملتقى،وتمثلت في التحريض السياسي والأمني،أو ما سماه أحدهم “المنع السياسي الشرعي”،وكالعادة:هذا الأمر مذموم ومرفوض حين يكون ضدهم،لكنه محمود طالما يستخدمونه هم “وفق الضوابط الشرعية”!.إنها النتيجة النهائية لمنطق الإقصاء ورفض وجود الآخر فضلاً عن الاستماع له،ومن الطبيعي أن يسعى من يرفض الآخر ويحتكر الحقيقة لإسكات كل من يختلف معه بشتى الوسائل والطرق غير الأخلاقية،ولا تنتهي سلسلة التناقضات بين شعارات الدين المرفوعة والمنطق الميكيافيلي الذي حكم عمل هذه المجموعة الإقصائية.

وفق هذه الاستراتيجيات تمكن التيار السلفي الحركي من المساهمة في إلغاء ملتقى النهضة،ولأنه يحفل بالمكاسب اللحظية والصغيرة فقد عدَّ هذا انتصاراً كبيراً يعوّض فيه فشله الذريع في مقاطعة معرض الكتاب،لكنه لم يكسب أكثر من ذلك،فالملتقى وإن تم إلغاؤه يمكن أن يُعقد في مكان ووقت آخرَين.في المقابل خسر هذا التيار كثيراً،فظهر مثلاً تململ بعض شبابه من الطريقة اللاأخلاقية التي خاض بها المعركة ضد من كانوا رفاقاً بالأمس،كذلك أملت هذه اللاأخلاقية موقفاً نقدياً لها من “الأغلبية الصامتة” غير المتحزبة والتي لا تملك موقفاً مسبقاً،وكان لظهور السلفيين الحركيين بوجه إقصائي فج أثره في توحيد مجموعة التيارات الأخرى ضدهم وكسبهم المزيد من الخصوم.لعل هذا يدفعهم لمراجعة حقيقية لاستراتيجياتهم التي استخدموها تدفعهم للتصالح مع خصومهم ومع فكرة القبول بالاختلاف دون اللجوء إلى التحريض.

ربح الملتقى سمعة وصيتاً كبيرين،وقد اعتاد السلفيون الحركيون على إهداء خصومهم دعاية مجانية عبر إحداث جلبة كهذه،كما أنه نال تعاطفاً واسعاً نظراً للظلم الذي تعرض له،وحصل على احترام كبير من فئة الشباب بالذات،وانتشرت فكرته والمواد التي قدمها في المؤتمرين الأول والثاني في الانترنت،ولم يخسر إلا في المسائل المادية والتجهيزات المتعلقة بتنظيم الملتقى،لكنه حقق من المكاسب ما يجعل هذه الخسارة صغيرة.

ربح الشيخ سلمان العودة الجولة أيضاً،وساهمت الهجمة في إظهار مدى الاختلاف بينه وبين الإقصائيين،وتوضيح تسامحه الفكري وقربه من فئة الشباب بالتحديد،وتطور خطابه الذي تمكن من مجاراة التحولات الفكرية في البلاد والمنطقة،وقدرته على الانفتاح على كافة المكونات الاجتماعية دون حرج.

أيضاً ربح النشطاء الكويتيون الذين نظموا ملتقى المجتمع المدني،وخاضوا معركة ضد الحسابات السياسية التي تشرعن فكرة المنع والإلغاء ليقدموا نموذجاً لحراك مدني حقيقي قدم نصراً للمبادرات المدنية في الكويت والسعودية على السواء.

لعل أهم مكاسب “معركة ملتقى النهضة” أنها وضعت حداً فاصلاً بين الإسلاميين الإقصائيين والإسلاميين المؤمنين بالتعددية الفكرية والمذهبية،وأنها أظهرت بوضوح الفارق بين من يؤمن بالحوار والانفتاح والتسامح وبين من يرفض الآخر ويجعل من الإقصاء قضيته ومن الوسائل التحريضية غير الأخلاقية سلاحه.

تقدم هذه المعركة فرصة لتعزيز خطاب يرفض الإقصاء ويحترم وجود الجميع وحقهم في التعبير بما فيهم السلفيون الحركيون الإقصائيون،وفرصة لتعزيز المفاهيم التي يقوم عليها ملتقى النهضة وبالذات مفهوم “المجتمع المدني” الذي تم اختياره عنواناً للملتقى الثالث،فتطبيق المفهوم وجعله واقعاً يعتمد على خطاب مدني يؤكد على قيم التعددية والديمقراطية والحريات،وعلى مبادرة الشباب والشابات للقيام بأعمال مدنية تؤكد على قيمة التنوع وحق الجميع لا فئة بعينها دون سواها في العمل والحركة.

يربح خطاب التعددية والمجتمع المدني،ويخسر من لا يزال يراهن على أدوات القمع القديمة في مواجهة الفكر الحر.

 

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق