عام على بيان “نحو دولة الحقوق والمؤسسات”

الكاتب:

1 مارس, 2012 لاتوجد تعليقات

في مثل هذه الأيام من العام المنصرم نشر على الانترنت بيان “نحو دولة الحقوق والمؤسسات”. هذا البيان يشكل حجر زاوية في مسار طويل، وأحسبه علامة بارزة في التاريخ المعاصر للمملكة العربية السعودية وللتيار الديني المحلي بشكل خاص.

سرد البيان ثمانية محاور للإصلاح، هي (نصا) :

  • أن يكون مجلس الشورى منتخبا بكامل أعضائه، وأن تكون له الصلاحية الكاملة في سنّ الأنظمة والرقابة على الجهات التنفيذية بما في ذلك الرقابة على المال العام، وله حق مساءلة رئيس الوزراء ووزرائه.
  •  فصل رئاسة الوزراء عن الملك على أن يحظى رئيس مجلس الوزراء ووزارته بتزكية الملك وبثقة مجلس الشورى.
  •  العمل على إصلاح القضاء وتطويره ومنحه الاستقلالية التامة، وزيادة عدد القضاة بما يتناسب مع ارتفاع عدد السكان وما يترتب على ذلك من كثرة القضايا.
  •  محاربةُ الفساد المالي والإداري بكل صرامة ومنع استغلال النفوذ أيا كان مصدره ومقاومة الإثراء غير المشروع وتفعيل هيئة مكافحة الفساد لتقوم بواجبها في الكشف عن الفساد ومساءلة من يقع منه ذلك وإحالته إلى القضاء.
  •  الإسراع بحل مشكلات الشباب ووضع الحلول الجذرية للقضاء على البطالة وتوفير المساكن لتتحقق لهم بذلك الحياة الكريمة.
  • تشجيع إنشاء مؤسسات المجتمع المدني والنقابات وإزالة كافة العوائق التنظيمية التي تحول دون قيامها.
  • إطلاق حرية التعبير المسؤولة وفتح باب المشاركة العامة وإبداء الرأي، وتعديل أنظمة المطبوعات ولوائح النشر.
  •  المبادرة إلى الإفراج عن مساجين الرأي وعن كل من انتهت محكوميته أو لم يصدر بحقه حكم قضائي دون تأخير. وتفعيل ” الأنظمة العدلية” بما فيها ” نظام الإجراءات الجزائية” والتزام الأجهزة الأمنية و”المباحث العامة” بتلك الأنظمة في الإيقاف والتحقيق والسجن والمحاكمة وتمكين السجناء من اختيار محامين للدفاع عنهم وتيسير الاتصال بهم ومحاكمتهم محاكمة علنية حسب ما نصت عليه تلك الأنظمة.

***

لو لم أذكر علاقة التيار الديني بالبيان، فلربما ظن كثير من القراء أنه صادر عن أي من تيارات الإصلاح الوطنية غير المصنفة ضمن أطياف التيار الديني السعودي. فالمطالب التي يعرضها لا تبتعد عن تلك التي تحدثت عنها البيانات التي وقعها من يصنفون عادة ليبراليين أو دستوريين، منذ وثيقة “رؤية لحاضر الوطن ومستقبله -2003” وحتى “برنامج وطني للاصلاح-2011”. بل لعل ذلك البيان قد تجاوز هذه الوثائق في بعض مطالبه.

تبنى البيان طيف إصلاحي يمثل الشيخ سلمان العودة أبرز شخصياته المعروفة. وافتتح بإشارة إلى التحولات التي يشهدها العالم العربي، “الثورات التي بدأها الشباب وانضم لهم الشعب بكل فئاته ومكوناته في كل من تونس ومصر وليبيا… وغيرها، تمثل نذيرا بكون المملكة مثل سائر البلدان تواجه تحديا جديا، ستذهب الأمور باتجاه الثورة، ما لم تبادر الدولة سريعا في “الإصلاح والتنمية والحرية والكرامة ورفع الظلم ومقاومة الفساد”.

خلال السنوات العشرين الماضية أصدر الناشطون في التيار الديني السعودي بيانات وعرائض عديدة تنتقد سياسات رسمية أو تقترح تعديلات في الإدارة والقانون. لكن بيان “نحو دولة الحقوق والمؤسسات” يمثل حالة مختلفة عن تلك البيانات جميعا. ويهمني الإشارة إلى عنصري اختلاف رئيسين في هذا المجال:

أ‌)    المطالب التي عرضها بيان “نحو دولة الحقوق والمؤسسات” تضع الموقعين في خانة دعاة الديمقراطية. في الماضي كانت مثل هذه الدعوة منبوذة في الوسط الديني ومصنفة شعارًا للمتغربين والعلمانيين. مطالب مثل فصل السلطات، سلطة تشريعية منتخبة، حريات مدنية، مجتمع مدني، ليست معتادة في الوسط الديني، فضلا عن طرحها بوصفها حلا لأزمة وطنية.

ب‌)  وقع على البيان ما يزيد عن عشرة آلاف مواطن. الأسماء الخمسون الأولى في قائمة الموقعين لها أهمية استثنائية، فهي تشير إلى قاعدة عريضة تتجاوز المجال الاجتماعي للتيار الديني. هذا يؤكد اهتمام صانعي البيان بتقديم خطاب يعبر عن المجتمع السعودي بمختلف شرائحه. فيما مضى كان التيار الديني يقدم نفسه على كونه صانع أحداث وصانع رأي عام منفرد، يتوجه لبقية السعوديين ناصحا وحاكما. البيان الذي نحن بصدده يقدم موقعيه بصفتهم شركاء في خطاب واحد، يدعو لأهداف واحدة ويقدم طريق حل واحد.

المعنى السياسي لبيان “دولة الحقوق والمؤسسات”

دشن البيان مرحلة جديدة مضمونها الأبرز هو انفكاك الطيف الإصلاحي عن تراث السلفية التقليدية ومسارها التاريخي وخطابها السياسي والاجتماعي. هذا يعني بالضرورة طلاقا مع الدولة التي اعتادت التعامل مع التيار الديني سدا أمام مطالبات الإصلاح السياسي وأداة كبح لإرادة التغيير، سيما بين الجيل الجديد من السعوديين.

هذا التلخيص قد لا يصف ما جرى على وجه الدقة. ما وصفناه بطيف ديني إصلاحي، هو في حقيقة الأمر تيار في دور التشكل ولم تتضح ملامحه النهائية بعد. سلوكياته وخطابه أقرب إلى التجريب، وتكوينه الاجتماعي في حال تموج، تدخل فيه موجة وتخرج منه أخرى، يتسع ويضيق، تسخن أجواؤه الداخلية وتبرد. ومن المرجح أن يبقى الأمر على هذا النحو لمدة لا نستطيع تحديد أمدها، إلا إذا جرت حوادث كبرى في البلد، تضطر مختلف الأطياف والأفراد إلى حسم خياراتهم.

لكننا نستطيع في هذا الوقت – الذي يعد مبكرا نسبيا – الإشارة إلى بعض التحولات التي يسهم مجموعها في تشكيل الصورة النهائية لذلك الطيف:

1- الخروج من عباءة الدولة: صدور “مذكرة النصيحة” في منتصف 1992 كان أول إعلان صريح عن ظهور طيف ديني جديد متمايز في خطابه وتكوينه الاجتماعي عن المؤسسة الدينية الرسمية وكبار العلماء. تجلى التمايز بشكل رئيس في تطلع الطيف الجديد للتأثير في سياسة الدولة وتوجيه مسارها، أي الانتقال من صورة العضو العامل ضمن الجهاز الرسمي – كما هو حال المؤسسة الرسمية – إلى صورة العضو المتخارج والموجه. هذا يستبطن قناعة داخلية بأن الطيف الجديد لا يستمد قوته من علاقته العضوية بالدولة كما هو حال أبرز العلماء التقليديين، بل من تاثيره في الرأي العام، الأمر الذي يذكر بحال جماعات الاسلام السياسي التي نشطت في تلك الحقبة. أطلق على الطيف الجديد اسم تيار الصحوة.

2- التحرر من عباءة السلفية التقليدية: منذ 2001 كان ثمة جدل داخل التيار الجديد حول توجهاته الرئيسة ومواقفه السياسية، لا سيما موقفه الذي يتسم بالارتباك وربما الغموض تجاه تيار العنف السياسي الذي يتمثل في تنظيم القاعدة. كان هذا الأمر محرجا جدا لتيار الصحوة، نظرا لاختلاط مياهه بمياه “القاعدة” على مستوى المصادر الفكرية والبيئة الاجتماعية. في أول الامر كان ثمة محاولات يمكن وصفها بالاعتذارية، تؤكد على أن “القاعدة” هي التي مالت عن الصراط المستقيم. لكن ظهر تاليا أن هذا المنهج التبريري ليس فعالا في أداء وظيفة الفرز المطلوبة، خاصة وأن هناك أجنحة في “الصحوة”، وأخرى ضمن التيار التقليدي، تبشر -ضمن مستويات اقل عنفا – بنفس المبادئ والمواقف التي تتبناها القاعدة، مثل العداء الديني للغرب ونظرية المؤامرة الدولية .. إلخ. كان الأمر يقتضي إذن حسم الخيارات:
أ) على المستوى الفكري: التباعد عن الفهم النصي للدين والالتزام بتراث السابقين، وتبني تفسير للدين أكثر انفتاحا على العصر ونتاجه العلمي.
ب) على المستوى الاجتماعي: إعادة  تحديد شريحة المخاطبين من خلال التركيز على الطبقة الوسطى الحديثة وإهمال الطبقات التقليدية. هذا يعني –بالضرورة- الالتزام بالقيم واللغة وأنواع الخطاب التي تميل إلها الطبقات الحديثة وقبول المخاطرة بخسارة التقليديين.

حسم الخيارات

قبل 2005م كان تيار “الصحوة” يراهن على ترميم الجسور مع الحكومة. وبذل في هذا الصدد جهودا كبيرة وعلى مسارات مختلفة.  ويبدو أن جناحا في الحكومة كان يميل أيضا إلى هذا الخيار، إيمانا منه بأن الدين والمال هما الوسيلة الأقوى لتبريد التوترات وتثبيط التعارضات. لكن هذا الجناح لم يكن قادرا أو مستعدا لدفع الثمن السياسي المطلوب. منذ 2005 أظهرت الحكومة تجاهها أوضح للتحرر من ضغوط رجال الدين التقليديين، وانتهاج خط  أكثر انفتاحا في الجانب الاجتماعي. أحدث هذا الاتجاه صدمة في الوسط الديني، عبر عنها بوضوح الشيخ عبدالمحسن العباد، الرئيس السابق للجامعة الاسلامية:

لما آلت ولاية الأمر في هذه البلاد قبل عام واحد إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أعزّه الله بطاعته ونصر به دينه، هبَّ دعاة تغريب المرأة إلى الخوض في مجالات مؤدّاها انفلات النساء في هذه البلاد، كما انفلتت في البلاد الأخرى، وطفحت بها الصحف، مؤملين أن يجدوا في عهده خلاف ما كان في عهد أبيه وإخوانه الأربعة الذين وَلُوا الأمر من قبله، وأنَّى لهم ذلك؟[1].

أطلق وصف “التغريبي” على عدد كبير من المساعدين المقربين للملك، أبرزهم – ربما – وزير العمل السابق، المرحوم غازي القصيبي. لكن الوصف تمدد ليشمل أيضا وزير الإعلام السابق إياد مدني، وزير العمل عادل فقيه، السكرتير الخاص للملك ورئيس ديوانه خالد التويجري، وأخيرا ابنة الملك عادلة وزوجها وزير التربية الأمير فيصل بن عبد الله آل سعود[2]. المهم في الأمر كله أن التيار الديني بجناحيه التقليدي والصحوي وضعا نفسيهما في مواجهة مطالب متصاعدة بالإصلاح السياسي يموج بها المجتمع السعودي، وتتناغم معها تغيرات في المحيط الإقليمي، فضلا عن ضغوط من حلفاء المملكة الغربيين، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. في خضم هذا الصراع صعدت الحكومة إجراءاتها الهادفة لتحجيم التيار الديني في مستويات عديدة، بلغت أعلى مستوياتها في أغسطس 2010 ، حين صدر أمر ملكي يمنع رجال الدين من الإفتاء للعموم.  ونص الأمر على أن ” كل من يتجاوز هذا الترتيب فسيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع، كائنا من كان”[3]. وقد أٌغلق بالفعل مواقع انترنت وأنظمة تواصل يديرها رجال دين، وأنذر آخرون بأنهم سيتعرضون لإجراءات مماثلة ما لم يغلقوا الأبواب المخصصة للفتوى على مواقعهم الالكترونية.

في هذا الوقت تحديدا، أي الربع الأخير من العام 2010، كان ثمة حراك ساخن بين مثقفين يتبنون رؤية دينية إصلاحية، قد نجح في بلورة موقف جديد، يدعو إلى تبني موقف محدد تجاه ما يجري في البلاد. تتلخص هذه الرؤية في أن الجدل الشديد داخل التيار الديني حول ما يصفونه بمؤامرة تغريبية قد حرف الصراع  عن مساره الصحيح بتركيزه على الأشخاص،  متناسيا حقيقة أن جميع هؤلاء الأشخاص لم يكن لهم قيمة ولا قدرة على فعل شيء لولا أنهم أعضاء في النظام السياسي . بعبارة أخرى عناصر في منظومة واسعة تنفذ سياسة عامة، هي جوهر المشكلة. المبالغة الحديث عن التغريب قد يستر حقيقة أن استبداد الدولة وانفراد النخبة بالحكم وانعدام المشاركة الشعبية والرقابة، هو الذي يجعل التغريب أو غيره ممكنا، ويجعله – وهذا هو الاهم – قادرا على استثمار مصادر القوة الوطنية التي تهيمن عليها الدولة. بناء على هذا التحليل رأى هؤلاء الإصلاحيون أن على التيار الديني أن يعيد صياغة أهدافه بالتركيز على معارضة الاستبداد والدعوة للمشاركة الشعبية.  هذه إذن دعوة لتحول التيار الديني إلى حركة سياسية معارضة للحكومة.

لم يكن متوقعا أن يتوافق أكثرية رجال الدين على هذا التحليل. فهو – في نهاية المطاف – دعوة لكل منهم للتضحية بنظام مصالح جرى بناؤه وترسيخه على مدى سنوات طويلة. كما أنه سيؤدي بالضرورة إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمع الديني.

في ديسمبر 2010 انطلقت شرارة الربيع العربي في تونس ونجحت في الإطاحة بحكومة الرئيس زين العابدين بن علي. وتلتها مصر التي انفجرت ثورتها بعد شهر، ثم البحرين واليمن وليبيا في الشهر التالي. وفي هذا الشهر تحديدا، فبراير2011 ، شهدت الساحة السعودية صدور بيانات عديدة، تتفق جميعها على اعتبار الإصلاح السياسي المطلب الملح للمجتمع السعودي في لحظته الراهنة.

بيان “نحو دولة الحقوق والمؤسسات” كان الأكثر إثارة للاهتمام؛ لأنه أكثر من مجرد إعلان مطالب. كان إعلانا بوصول الجيل الجديد في التيار الديني إلى نقطة التحول الكبرى، التي تتمثل في اتخاذ موقف سياسي – فكري صريح يساند الإصلاح السياسي ويدعو للديمقراطية.

***

هذه النقطة هي الحلقة الأخيرة في مسار طويل. وأظن أن تاريخ الحركة الدينية السعودية سوف يصنف في المستقبل إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل بيان الحقوق والمؤسسات ومرحلة ما بعد البيان. فيما يتعلق التوصيف السياسي للمجتمع السعودي، فقد كشف البيان عن حقيقة أن التعبئة الثقافية الطويلة الأمد ضد المبادئ السياسية الحديثة لم تنجح في إقاع السعوديين بالتخلي عن التطلع لعلاقة جديدة بين المجتمع والدولة، علاقة تقوم على المساواة والشراكة والضمان القانوني لحريات الأفراد وحقوقهم. هذا تطور يبعث على الغبطة ويعزز الأمل، رغم تاريخ طويل من الإخفاقات وخيبات الأمل.



[1] عبد المحسن العباد: لماذا لا تقود المراة السيارة في المملكة العربية السعودية.  ص 55. ن. إ.

 www.saaid.net/book/8/1915.doc

[2] انظر مثلا ابراهيم السكران: تطورات المشروع التغريبي في السعودية. مدونة ابراهيم السكران (8 سبتمبر 2010)

 http://iosakran.ws/?p=314

[3] جريدة الرياض 13 اغسطس 2010 . www.alriyadh.com/2010/08/13/article551243.html

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن توفيق السيف

مفكر سعودي مؤلف في العلوم السياسية وكاتب وناشط في مجال حقوق الإنسان
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق