العدالة التي تنتظر حمزة!

الكاتب:

21 فبراير, 2012 لاتوجد تعليقات

أزمة حمزة كاشغري لا تحتمل المزايدة على حب الرسول عليه الصلاة والسلام وتوقير مقامه من عدمه، لقد كان جليًّا إدانة المجتمع السعودي-بكافة أطيافه- للحبر (التافه) الذي سكبه حمزه في حق المصطفى عليه الصلاة والسلام. كان من الطبيعي لمجتمع -كالمجتمع السعودي- أن يستنكر ما نشره حمزة في تويترعن محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يصنف بحق على أنه نوع من العبث والتصرف اللامسئول. كثير من الكتاب يصيبه هذا النوع من (الهوس المُراهق) ولا يجد -بغية الشهرة ولفت الانتباه والبحث عن الذات- إلا في التطاول على الأديان، والأنبياء، والرسل ومقدسات الناس، ولا تتحقق لبعض الأفراد ذاتيتهم وشخصيتهم إلا من خلال جرح مشاعر الناس في معتقداتهم. لم تكن أسباب الأزمة في البحث عن مكانة الرسول في أفئدة أفراد المجتمع السعودي فمعلوم أنها مقدّسة ولا يرضون عليه أن يكون جدارا قصيرًا يقفز من خلاله كل باحثٍ عن شهرة ومريدٍ للأضواء. ولذلك، فإن أي محاولة لاستغلال هذه الحادثة لبناء (محكمة تفتيش) واختبار الناس والتشكيك في حبهم للرسول -عليه الصلاة والسلام- لن يفهم منه إلا أنه هروبٌ عن قراءة الأزمة من زواياها المختلفة.

نستطيع أن نقول أن الأزمة تفجّرت في اللحظةِ التي قُرر فيها جرّ (الفتى) إلى القضاء. وهنا تظهر المفارقة، إذ ظهر جليا -أكثر من ذي قبل- أن المجتمع السعودي الوحيد من نوعه في العالم الذي عادة ما يخشى تدخل القضاء، في حين أن العالم الحديث-في المقابل- لا يتوقف عن المناداة بضرورة تدخل القضاء لحل مشاكله وأزماته. وهكذا هو الحال في النظام الحديث، فسلطة القضاء في ضمير أفراده عبارةٌ عن صمامِ أمان له لإنفاذ العدالة وحفظ حقوقه، وفي أي نظام اجتماعي يكون الدور البارز عادة للقضاء في حفظ حقوق المجتمع الانساني -أفرادا ومؤسسات- خاصة في مواجهة السلطة وشلّ السلوك المنحرف الذي قد يصدر منها. وعندما يقوم القضاء بمعاقبة المفسد، السارق والظالم، والمنحرف عن الخط الاجتماعي العام تظهرالمصلحة الاجتماعية العليا للقضاء، وعندما يفشل القضاء في تحقيق كل ذلك يكون الهروب والخوف منه النتيجة الطبيعة الحتمية لذلك.

 لقد بدا للمراقب أن الحدث كَشف أن ثمة أزمة (ثقة) حقيقية داخل المجتمع السعودي تجاه منظومته القضائية برمتها. وإذا أردنا أن نبحث في الأسباب الحقيقية لأزمة الثقة هذه، فإن أول تجلياتها هي أن (حمزة) تحول مباشرة إلى مجرم بدل أن يكون مجرد متهم، وهذا معناه أن التجريم بات محسوما قبل تقديم المتهم للمحاكمة. لقد وقف الجميع مذهولا أمام عاصفة عنيفة لا تطالب إلا بالقتل والقتل فقط، ظهرت تكتسح كل رأي مخالف وكل تحليل مفارق وتقتلع كل وجهة نظر تحاول أن تقرأ الحادثة بشكل مختلف. لقد عملت ردود الفعل على تجسيد أن القضاء الشرعي متعطشٌ للتجريم والقتل وظهر في (حبر الغاضبين) قضاء لا يقبل استغفارًا ولا رجوعًا ولا حتى توبة، قضاء لا يشفي غليله إلا زج رأس ذلك الشاب الطائش ورميه على الأرض ليتدحرج أمام المتفرجين! هنا شكل القضاء في ذهن المراقبين تجاوزا خطيرًا لمقتضيات العدالة، إذ فُرِّغ دور القاضي من مضمونه تماما، ولم يعد أمام القاضي سوى إيقاع العقوبة. وعليه، فإن المتهم يذهب للمحكمة ليس وفق منظومة العدل المعلومة من أن الأصل في الإنسان البراءة، بل يذهب للمحكمة (مذنبا) ليكون دور القاضي سلبيًّا بحتا، لا يتعدى إمضاء العقوبة وفي أحسن الأحوال الاختيار بين الحد أو التعزير!

هنا تصبح المحكمة -وفق هذه الصورة- مجرد مسرحية أو (صورية) بلغة القانون، لا أهمية للدفاع – هذا إن ُسمح له بالحضور- ولا حاجة في مناقشة أدلة الاتهام أو حتى تفنيدها. ولعل هذا ما يُفسر تناقل الناس الأخبار أن القضاة يجنحوا إلى إقناع المتهمين بعدم جدوى توكيل أو حضور محامٍ للدفاع! وهو أيضًا ما يُفسر جنوح القضاة عندنا إلى الحكم بناء على الشك والظن وليس على الجزم واليقين، حيث تكشف المحاكمات الأخيرة في المحكمة الجزائية المتخصصة إلى أن الأحكام القضائية هناك قد تصدر بمجرد (الشبهة)، أو (النية)، أو (التعاطف). ولذلك، كان من السهل أن يخلق تجريم الأفراد بمجرد (الأفكار) تصدعا في ثقة المواطن بمنظومة بلده القضائية وينشأ تبعًا لذلك الخوف والهلع تجاهه. وفي حين أن قضاء العالم كله يقضي بأن الجريمة والعقوبة لا ترد إلا على الأفعال المادية فقط، يرى المراقبون أن قضاءهم الوطني يجنح إلى المعاقبة على الشبهات والتعاطف الفكري والإيديولوجي.

على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فعند متابعة ما يكتب في التويتر وغيره، تجد الاستياء العام تجاه تجريم القضاء كل ما يدعو إلى مراقبة السلطة ومحاسبتها، وما يجرم نقد أفراد السلطة في العلن واستياء ضد العقوبة التي تصدر ضد كل من يعترض على أحكام السلطة وقراراتها وسياساتها. وهذا النفَس التجريمي ولّد الشعور لدى أفراد المجتمع السعودي أنه ليس أمام جهاز قضائي يقوم بالدور الذي يقوم به أجهزة القضاء في العالم وبالصورة التي بيناها أعلاه، بقدر ما يعتقد أنه أمام جهاز سياسي أمني يمارس الإرهاب الفكري على كل مظاهر التعبير عن الرأي وأشكاله. وترتب على ما سبق، أن كل من خالف رأي السلطة ولو (بكلمة) خضع مباشرة لمحكمة (تفتيش) ومطرقة اتهامات من قبيل (صاحب بدعة وفتنه) و(خارجي) و)شاق لعصى الطاعة) وأنه (محرض)… إلخ. والمنحدر الأخطر في هذا السياق- في ذهن المراقبين- ليس في استدعاء هذه التهم وتوجيهها للأفراد والجماعات إذ الأمر هنا لا يعدو أن يكون في شكل سجال وخلاف أو تراشق فكري، إنما الخطير هو تحويل هذه الاتهامات إلى ساحات القضاء ومنصات القضاة واستخدامها في تجريم و تصفية كل أشكال المعارضة (السلمية) لسياسات السلطة. وكثيرٌ من النقاد والكتاب اليوم يعتقدون أن مفهوم (طاعة ولي الأمر) خضع ويخضع إلى التمدد-طولا وعرضًا- ومن كلا الشقين السياسي والفقهي، ليشمل اليوم كل ما يغضب ويعكر صفو السلطة، وأصبح اختلاف وجهة النظر مع (السلطة) (خروجا) يوجب الخضوع لعقوبة، وإنكار الظلم علنا (خروجا) و(جريمة) تستوجب التنكيل والحبس! وبهذا مهد القضاء الوطني في السعودية ليس فقط للمجتمع المحلي بل حتى للمجتمع الدولي ككل للتشكيك والطعن في مصداقيته.

وحتى العراك الجدلي الذي أعقب عبارات حمزه (المسيئة) بين فريق يرى في توبته مسقطة للعقاب وفريق يرى العكس وأن في العلن إقرارًا للجريمة لا يحتاج معها إلا إلى إيقاع العقوبة، كشف هو الآخر عن أزمة حقيقية أخرى في الهرم القضائي السعودي وهو عنصر الضبابية الذي يحكم مفهومي الجريمة والعقوبة في النظام القضائي السعودي. الازدواجية (الهجينة) المختلفة في تركيبة المنظومة القضائية برمتها لا تساعد المجتمع على خلق شعور بالثقة تجاه مؤسساته حيث تظهر أحكامه في أغلب الأحيان مضطربة وغير مضطردة وذلك نتيجة للتفاوت الكبير بينها. كما أنه لا يقدم أي ضمانات للمتهم وهو ما يفسر غياب حمزة في غياهب الاستجواب من لحظة إحضاره من ماليزيا إلى يومنا هذا من دون كشف لظروف احتجازه ولا ملابسات التحقيق معه، فكيف بعد ذلك نعيب نحن على المجتمع هذا القلق المتزايد تجاه منظومته القضائية؟

وإذا أردنا أن نبحث أكثر في الأسباب الحقيقية لأزمة المطالبة بمحاكمة (حمزة)، فإننا مضطرون إلى استدعاء بعض المحاكمات -حتى القديمة منها- حيث ما زالت حاضرة في أذهان كثير من شرائح المجتمع السعودي اليوم، محاكمة موقعي (مذكرة النصيحة) وكان من ضمنهم سفر الحوالي وناصر العمر، المحاكمة الذي تحدث عنها محسن العواجي في قناة الحوار وبكى بسببها حيث حكم عليه القاضي بالسجن 15 سنة، المحاكمة الشهيرة التي رددها محمد الحضيف عدة مرات وهو يشير إلى حكم (القتل) الذي صدر ونفذ بحق أخيه عبدالله. كذلك يتذكر الناس الحكم القضائي الذي قضى بسجن خالد الراشد 15 سنة وكذلك (الأحكام) التي صدرت بحق سعيد بن زعير مرات عدة بالسجن مددا مختلفة، واليوم يحكم له بالبراءة من التهم الصادرة ضده ومع ذلك، لا يتمكن القضاء من إطلاق سراحه! ولا يغيب عن أذهانهم أيضا محاكمة يوسف الأحمد هذه الأيام والـ 18 تهمة التي وجهها له الادعاء، هذا فضلا عن الثلاثين سنة سجن التي صدرت في حق ما يسمى بـ (الإصلاحيين الثلاثة) في جدة. ناهيك عن آلاف من المحاكمات التي تُرفع وفق تهمٍ هزيلةٍ ومع ذلك تُوقِعُ عقوباتٍ أليمةً، هذا هو مشهد القضاء المختزل في ذهنية الفرد السعودي!! ولذلك، كان من الطبيعي بعد ذلك كله أن تشكل المطالبة بعرض حمزة على القضاء في ذهن المجتمع السعودي -وجميع المواقف الجارفة التي لحقتها- مفارقة عصية على الفهم والإدراك، ووجد المجتمع أن من حقه أن يفهم دواعي هذا السيلان وهذا الانجراف نحو شهوة الذهاب للمحكمة ووفق حالة القضاء المعروضة أعلاه!!

كما بدت التساؤلات -التي قدمها بعض شرائح المجتمع في تويتر وغيره- مشروعة في نظري، وهي تطالب عن كشف السر الذي يقف هذه المرّة خلف هذه الرغبة الجامحة في المحاسبة والعقاب!! فإذا كان المجتمع السعودي يرفض كل من يعتقد أن جدار المقدسات قصير نحو العبور إلى عنوان الشهرة والأضواء، فإن المجتمع في نفس الوقت من حقه أن يرفض أن تكون الشريعة والقضاء كذلك جدارا قصيرا لإثبات القوة والحضور. وإذ أقرّ المراقبون أن المساس بالمقدسات وبجناب الرسول -عليه الصلاة والسلام- (جريمة)، فإن الحقيقة المرّة العالقة في أذهان المجتمع أن قضاءَهم الوطني يفقد مصداقيته عندما يعجز عن مواجهة جرائم أخرى بالغة البشاعة مرت من أمام عينه –وتمر كل يوم- دون عقاب أو تجريم! ولذلك وفي أعقاب طلب محاكمة حمزة، كان تويتر يغصّ بالتغريدات التي تبحث عن أجوبة لصمت القضاء حيال ما حصل في جدة و تسبب في إزهاق أرواح مئات من الأنفس البريئة، وصمته عن سوء توزيع الأراضي الخام، وعن صمته تجاه وجود آلاف في السجن منذ سنين من دون تهمة. كذلك من حق المجتمع أن يتساءل عن غياب القضاء في الأخبار التي تناقلته الناس عن وضع السجينات في سجن ذهبان، وغيابه كذلك عن اعتقال النساء والأطفال الذين طالبوا بالإفراج عن ذويهم من أمام وزارة الداخلية!!

عدم تدخل القضاء في محاسبة المقصر والمفرط في هذه الأحداث -مع أنها كلها حدثت في العلن- لا يمكن معه لوم المجتمع بعد ذلك في أن يفقد ثقته في قضائه على هذ النحو ويرتاب منه، وأكثر ما يُسقط القضاء في عين أفراد المجتمع هذه الانتقائية في تطبيق الأحكام على النحو الذي قال عنه -عليه الصلاة والسلام-: (أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). والمجتمع السعودي مدرك أن الإسلام لما جاء بالعدل والحق وأعمال القسط بين الناس لم يردها هكذا انتقائية مجزأة لا ترد إلا على الضعفاء، بل كان نجاح رسالتها أنها بدأت في معاقبة الكبير قبل الصغير والقوي قبل الضعيف، ومن خلال هذا المنهج تستطيع أي أمة أن تفخر بقضائها بصفته واجهة عالمية وحضارية تلج صدور الجميع وتستقر قبل أي شيء في قلوب الضعفاء والمساكين، وهذا الشيء لا يمكن أن يتحقق في ظل عدلٍ لا مضطرد، يراه المجتمع مجزّأ ومُختزلا.

خاص بموقع ” المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق