ستيفان لاكروا في كتابه (زمن الصحوة) يفتح ملف الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية ويدرس التاريخ والبنية والصراعات

الكاتب:

19 فبراير, 2012 لاتوجد تعليقات

ينشر موقع المقال حصريا هذا الجزء من كتاب (زمن الصحوة) لمؤلفه ستيفان لاكروا والصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

مقطع من الكتاب:

تظلّ المملكة العربية السعودية بقعة مُعتمة باستمرار في الدراسات التي تتحدث عن الحركة الإسلامية. ولئن كان جميع المؤلفين متفقين على أن التأثير الدِّيني للمملكة، القوي الاستقطاب، عامل أساس في ظهور الحركات الإسلامية وانتشارها في الشرق الأوسط، فقلّة منهم يستطيعون وصف النطاق العام لذلك التأثير وطرائقه بأية دقّة ممكنة. وغالباً ما يتراوح الوصف بين التبسيط الزائد المُضحك والتبسيط الزائد المُغضب. يقال إن المملكة العربية السعودية تصدّر إسلاماً رجعياً نمطياً لم يطرأ عليه تغيير منذ القرن الثامن عشر حين انتعش من جديد على يد داعية من قلب الجزيرة العربية هو الشيخ محمد بن عبد الوهّاب. وبناء على هذه الصورة، فإن الحداثة لا تدخل على الخط إلا بشكل غير مباشر، عبر اكتشاف النفط الذي مكّن المزاج الديني من أدوات تعينه على التوسّع العالمي. ويمكن تفسير محدودية تلك التوصيفات بسهولة: فالمجال الإسلامي السعودي لم يَحْظَ إلا بقليل من الدراسات، التي كانت بدورها تعتمد بالأساس على مصادر ثانوية. يبقى ذلك المجال لدى الصحافيين والباحثين ميداناً لم يُستكشَف بعد.

 يبقى الرهان الأول استعادة الإسلام في المملكة العربية السعودية التنوّع والتعددية التي تميّزه، ككل الظواهر الاجتماعية. ولكي نقوم بذلك، يلزم إحداث ثورة كوبرْنيكية في المقاربة المتعارَف عليها: على الرغم من الاعتقاد السائد بأن المملكة قوة تنشر الإسلام، يُنظَر إليها كذلك على أنها كانت واقعة تحت التأثيرات المنبعثة من أغلب التيارات الإسلامية التجديدية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد نقلت هذه التأثيراتُ صوراً حديثة للنشاط الإسلامي، الذي تزاوله الحركات الإسلامية في المناطق الأخرى في الشرق الأوسط، إلى المملكة. والتقاء هذه الثقافة الحيّة مع بعض تعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، ولّد تياراً إسلامياً سنّياً محلّياً داخل المملكة يتميّز بالتعقيد والتنوّع على غرار الحركات التي أثّرت فيه.

ويختلف ذلك التيار في جوهره عن واقع الحركات الإسلامية في أغلب بلدان الشرق الأوسط: ليس المطلوب هنا محاربة نظام علماني يدّعي الاعتماد على مدوّنة أخرى يستمد منها مشروعيته غير الدين، بل القضية هي منازعة سلطة قائمة على الدين احتكارها للمقدس؛ لذلك فالإسلام في المملكة العربية السعودية مصدر للتنازع الجوهري: من قبَلِ السلطة والإسلاميين من جهة، ومن قِبَلِ الإسلاميين أنفسهم لتعدد التصورات التي تُلهمهم، من جهة أخرى. وتتجلّى هذه النزاعات أحياناً – كما سنرى لاحقاً – في صيغ عقدية وفقهية يمكن أن توحي بأنها بعيدة جداً عن الوقائع المُعاشة. و لكن في أغلب الأحيان، تجد تلك النزاعات نفسها تقريباً -أي أنها تُغذِّي وتتغذّى- على صلة بالديناميات الاجتماعية المصاحبة: سواء أكانت صراعات رأسية بين أفراد ينتمون إلى طبقات مختلفة في الهرميات الاجتماعية، أم صراعات أفقية بين قوى تنتمي إلى قطاعات اجتماعية مختلفة. وبالتالي فإن الإسلام في المملكة العربية السعودية هو اللغة الأساسية التي بواسطتها يتم التعبير عن المنافسات الاجتماعية، وهو ما نأمل أن توفّره الصفحاتُ الآتية. وعدا عن كونه تحليلاً للنزعة الإسلامية السعودية، فإن ما نأمل اقتراحه على القارئ هو غوْصٌ في التاريخ السياسي والاجتماعي الحديث لبلد غيرِ معروفٍ بما يكفي.

إختيار مقاربة

أحدث صدام حسين الذي كان حاكم العراق زلزالاً إقليمياً وعالمياً بغزوه الكويت في 2 آب/ أغسطس 1990. وسرعان ما أفرزت الأزمةُ المتعاظمة ضحية غير مقصودة، وهي النظام السعودي الذي أُرغم على الاستعانة بقوات أجنبية، أمريكية بشكل رئيس، لحماية أراضيه من هجوم عراقي محتمل. على أن الإعلان عن قدوم تعزيزات غير مسلمة إلى “بلاد الحرمين”، أطلق حملةَ مُعارضةٍ هائلةٍ للأسرة المالكة أشرفت عليها حركةٌ مشتَّتة ولكنها حسنة التنظيم تسمى الصحوة الإسلامية (أو الصحوة اختصاراً). وبالتالي، لم تعد المملكة جنّة السلم الاجتماعي كما وصفها المراقبون من قبل، وباتت مكشوفةً أيضاً أمام تعبير احتجاجي مستمَدٍّ من مصدر كانت تعتقد أنها تحتكره، أعني بذلك الإسلام.

صحيح أن مجموعةً من الإسلاميين، تؤمن بالمهدوية، استولت على المسجد الحرام بمكّة المكرّمة بقيادة جهيمان العتيبي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1979، لكنّ تلك الحركة التي ألهمتها نظرة مذهبية ضيّقة جداً لم تستطع تعبئة أكثر من بضع مئات من المناصرين. بيد أنّ الوضع كان مختلفاً للغاية في آب / أغسطس 1990، عندما استقطبت الخطبُ الحماسية الشاجبة للوجود الأمريكي عشراتِ الآلاف من الشباب المتحمّسين في أرجاء المملكة كافة بوصفه علامة على فشل أخلاقي وسياسي “للنظام” السعودي. وسرعان ما تحوّلت المظاهر الاحتجاجية إلى حملة منظَّمة، ووقّع بعض المفكّرين والنخب الدِّينية في المملكة عدة التماسات طالبت بإدخال إصلاحات جذرية. واهتزّ النظام السعودي لأول مرّة في تاريخه بعد أن بدا منيعاً حتى ذلك الحين. واستمرّت الاضطرابات حتى سنة 1994، وأدّت إلى اعتقال عدة آلاف من أنصار المعارضة.

سنركّز في هذا الكتاب على “انتفاضة الصحوة” (كما تسمى عند بعض الإسلاميين السعوديين). يوفّر هذا الحدث أكثر نقاط التركيز ملاءمةً لدراسة الحركة الإسلامية السعودية لأنه كان أول أداة تعبوية إسلامية بهذا الحجم في تاريخ البلاد، ولأنه مثّل ذروة ولحظة حقيقة ونقطة انطلاق تأسيسية في الوقت نفسه.

شكّل الحدث نقطة ذروة للحركة الإسلامية السعودية لأنها شهدت تفعيل هياكل وأفكار كانت قد تبلورت خلال العقود السابقة في بيئة “إسلامية حركية” تعود جذورها إلى سنوات 1953 – 1954، عندما استقرّ منفيون من حركة الإخوان المسلمين المصرية في المملكة. وبالتالي، لكي ندرس “انتفاضة الصحوة”، فنحن بحاجة إلى البدء بكتابة تاريخ لم يُكتب من قبلُ، هو تاريخ الحركة الإسلامية في المملكة العربية السعودية. وإضافة إلى التحقق من الوقائع، فسنسعى إلى استعراض تاريخ واقعي لممارسات التيار الإسلامي السعودي وتمثّلاته.

كانتِ انتفاضةُ الصحوة لحظةَ حقيقة أيضاً لأنها أتاحت فرصةً فريدةً لاختبار القدرة التعبوية للحركة الإسلامية في المملكة. يشرح الكتاب كيف استطاعت الحركة الإسلامية لمدة معيّنة نقض منطق السيطرة الاجتماعية الذي ساعد على المحافظة على استقرار النظام في الظروف العادية، وكيف فشلت هذه التعبئة الإسلامية في نهاية المطاف. كما تسلّط هذه الدراسة الضوء على نواحٍ معيّنة في حملات التعبئة الإسلامية (وحملات التعبئة غير الإسلامية إلى حدّ ما) التي يصعب ملاحظتها في سياقات أخرى عدا المجتمع السعودي.

شكلت انتفاضةُ الصحوة أخيراً نقطةَ انطلاق تأسيسية لأنها الحدث الذي تحولت فيه سائر الحملات التعبوية التالية للتيار الإسلامي داخل المملكة إلى نقطة مرجعية أساسية، في مسعى لربطه “بلحظة” تبقى مصدراً لا ينضب للشرعية في الدوائر النشطة. وبالتالي فإن شرح انتفاضة الصحوة مفتاحٌ لفهم التغيّرات التي شهدتْها الحركةُ الإسلامية السعودية في مستهلّ القرن الحادي والعشرين.

كانت حملة الاحتجاج التي شهدتْها المملكة في مستهل تسعينيات القرن الماضي موضوعَ عددٍ قليلٍ من الدراسات التي اعتمدت على مصادر ثانوية في الأساس. وسنرى لاحقاً كيف يتسلط الضوء على شبكتي القراءة التقليدية للإسلام الحركي – القراءة الثفافية والقراءة البسيكواجتماعية– التي أظهرت قصورها كما بينّا.

أما بالنسبة إلى بعض المؤلفين، فإن البحث عن تفسير الاضطرابات التي هزّت المملكة العربية السعودية في تلك الفترة يجب أن يكون في هيمنة خطاب ديني “وهّابي” وُصف بأنه جوهرياً “قاطع في كل وجوهه”، تدعمه مؤسسةٌ دينيةٌ تتميّز بغموضها. وإذا كانت التفسيرات الثقافية قد تصدرت أحياناً علوماً كانت السبب في اهتمامها بالحركة الإسلامية، فإن المكانة التي حظيت بها في تحليل النموذج السعودي لهذه الظاهرة كانت هائلة بالعودة  إلى عدم التكافؤ الذي تميزت به. ولقِلّة حيلتها في التعامل مع مجتمع غني ومزدهر نسبياً ولا توجد فيه “طبقات خطيرة”، جعل بعضُ المحللين من النموذج الثقافي المحورَ الرئيس لتفسيراتهم للحركة الإسلامية السعودية، إذا لم يكن للمجتمع السعودي ككل.

إن ارتباط دراسة الوهّابية بفهم الحركة الإسلامية السعودية أمرٌ لا جدال فيه، بيد أنه ينبغي لمثل هذه الدراسة أن تأخذ في الحسبان تعقيد هذه الظاهرة وتبدّلَها؛ فالوهّابية ليست جوهراً عصياً على التغيير كما يتُصوَّر غالباً، ولكنها “تعاليم” حيّة خاضعة للتفسير ولإعادة التفسير. وما من شك في أن انتشار هذه التفسيرات يُعزى إلى بساطة خطاب الشيخ محمد بن عبد الوهّاب. وبهذا المعنى، تعبّر الوهّابية عن ظواهر اجتماعية بقدر ما تعبّر هذه الظواهرُ عن الوهّابية، ليتولّد في داخلها أشكال الصيغ المتحوّلة كافة. والأهم من ذلك أن دراسة الوهّابية لا تفسّر بحال من الأحوال سبب بروز الاحتجاجات عندما برزت. ورداً على هذا التساؤل، دعم بعض المحللين نموذجهم التوضيحي بطرح متغيّر نفسي اجتماعي، مشيرين بذلك إلى اضطراب اجتماعي ناتج عن عاملَين: العامل الأول، ثقافي بطبيعته ويشمل الإقصاء الذي تسببت به الحداثة الفائقة السرعة وتفشّي مشاعر العداء للأمريكيين (وتوسعاً للأسرة الحاكمة) التي أجّجها تواجد القوات الأمريكية في بلاد الحرمين. أما العامل الثاني، فينبع من قضايا اقتصادية مثل الإحباط النسبي الناجم عن تراجع عائدات النفط بعد الركود الذي عمّ البلاد في سنة 1982. أخيراً، ركّز بعض المؤلفين على الكاريزما التي تتحلّى بها رموز المعارضة، مثل سلمان العودة وسفر الحوالي، والتي استطاعت شحذ هِمّة الجماهير بمنطق تغلب عليه العاطفة أكثر من العقلانية.

الواضح أن بعض هذه التفسيرات لا تكفي؛ فالحداثة السريعة على سبيل المثال هي أحد ثوابت الواقع السعودي منذ ستينيات القرن الماضي، ولم يعد من مبرر لأنْ تكون سببَ التعبئة التي حصلت في سنة 1990، أكثر من أية مرحلة أخرى. أما الأجوبة الأخرى فإنها لا تستقيم إلا جزئياً: فبحوثنا تثبت، أولاً، وجود نواة بدائية لحركة احتجاجية سابقة عن نشوب حرب الخليج، التي كانت -بشكل ما- برتبة المحفّز للتعبئة لا القوة التي أطلقتها. زد على ذلك أنه على الرغم من استحالة إنكار حقيقة أن الوجود العسكري الأمريكي أثار في نفوس الناس إحساساً واسعاً بالغضب، استطاعت الحركة الاحتجاجية استغلاله، لا يزال ينبغي تحديد تأثيراتها في النظام وليس في الأفراد فحسب. وبالمثل، على الرغم من أنه كان للإحباط النفسي الناتج عن الركود الاقتصادي نتائج لا يمكن إنكارها، فهو لم يؤثر في المجتمع ككل بدرجة واحدة، ولذلك ينبغي وضع تأثيره في سياقه المناسب. وأخيراً، ينبغي فهم الكاريزما كما أشار بيار بورديو (Pierre Bourdieu) من خلال صلتها بالديناميات الاجتماعية الأكثر بنيوية بطبيعتها. فصاحب الكاريزما هو “رجل الأوضاع غير العادية” أكثر منه الرجل “غير العادي”.

إذا تجاوزنا هذه المسألة الحياتية، لا يملك هذا النموذجُ التفسيري الاجتماعي النفسي القدرة، كما نظيره الثقافي، على الإجابة عن بعض الأسئلة العويصة التي أثارتها انتفاضة الصحوة. مثال ذلك، كيف ترسّخت هذه التعبئة ولماذا فقدت زخمها؟ لا يمكن المقاربات الكلاسيكية أن تقدم أكثر من وصف جزئي للغاية للحادثة، ويعود ذلك من بعض النواحي إلى الضعف الذي اعترى هذه التعبئة لمشكلتين متصلتين بالافتراضات المسبقة التي قامت عليها.

المشكلة الأولى، هي أن المقاربتين تنظران إلى التعبئة بأنها ليست سوى وليدة عوامل محدِّدة خارجية: انعدام توازن النظام (الثقافي أو الاقتصادي) في حالة المقاربة النفسية الاجتماعية، و”تأثير الثقافة” في حالة المقاربة الثقافية. لكنّ بُعد العمل الجماعي الاستراتيجي لم يؤخَذ في الحسبان أبداً، والانتقادات التي وُجِّهت إلى هاتين المقاربتين تمثل جوهر سلسلة كاملة من دراسات نُشرت منذ سبعينيات القرن الماضي، وأفضت إلى نظرية شاملة للعمل الجماعي بعد عشرين سنة، وهي نظرية الحركات الاجتماعية. إن التعبئة في نظر المدافعين عن هذه النظرية عمل استراتيجي، تقوم به جماعات تنعُم بكمّ من الموارد المادّية والمعنوية، ويعتمد على سياق محدد. وهذه التعبئة تدوم مع مرور الوقت باعتمادها غالباً على هياكل تعبوية وأطر للتأويل موجودة سلفاً، وبالتالي فهي لا تظهر بفعل السحر. بعبارة أخرى، لا يمكن للإحباطات وللتوترات وحدها أن تفسّر “سبب (أو كيفية) إقدام الرجال على العصيان”.

المشكلة الثانية، هي أن المقاربات النفسية الاجتماعية لا تأخذ في الحسبان تعقيدات المجتمع السعودي. وبالمقابل، تتعامل المقاربة الثقافية مع النموذج الثقافي السعودي باعتباره متجانساً وكياناً متماسكاً يمكن اختزاله بمذهب وهّابي له صفات محددة. ومن ناحية أخرى، تنظر المقاربة النفسية الاجتماعية إلى الميدان الاجتماعي بوصفه كياناً موحَّداً يتأثر بقوى دينامية متسقة. لكنّ كِلتا هاتين المقاربتين تضع هذه الكيانات “الشاملة” في مقابل الفرد الذي يجري تصويره بأنه سجين أهواء ذاته البشرية.

بيد أن المجتمعات ليست كياناتٍ متسقةً؛ فهي مؤلفة من عدة شرائحَ منفصلةٍ يتمتع كلٌّ منها باستقلالية نسبية، بمعنى أن كلّ شريحة محكومة بمنطقها الخاص الذي لا يمكن فرضه على المجتمع برمّته. ومن أجل تصنيف هذه الشرائح، يبدو أن كلمة “مجال” التي يستخدمها بيار بورديو لاقت قبولاً عاماً. المجال في عمل بورديو عبارة عن حيّز لعلاقات بين مراكز مرتّبة وفقاً لتسلسل هرمي. وهو يرى أن الوصول إلى المراكز المهيمنة مسألةُ صراع دائم بين فاعلين سلاحهم وهدفهم هو “رأس المال” بوصفه مورداً مادّياً أو معنوياً يمكّن صاحبه من “ممارسة السلطة أو النفوذ، وبالتالي التواجد في مجال معيّن بدلاً من أن يكون “كمّية مهمَلة” لا أكثر. إذا كان المجال حلبةً تنافسيةً، يكون كذلك موقعَ تضامن ضمني بين اللاعبين، على صورة “تواطئٍ موضوعي يشكّل الأساس لسائر الخصومات”. وهذا التواطؤ يستند إلى حقيقة أن “كل شخص معنيّ بمجال ما يتقاسم مع أقرانه عدداً معيناً من المصالح الأساسية، وعلى وجه التحديد كل ما له صلة بوجود المجال نفسه” وهو ما يضعهم في موقع الخصومة مع الغرباء. يشكّل هذا “التضامن المجالي” عقبةً أساسيةً أمام التعاون بين الأفراد المنتمين إلى المجالات المختلفة.

ولئن كانت هذه الشبكة التفسيرية التي تقسّم واقع المجتمع إلى مجالات تهدف إلى أن تكون كونية التطبيق، فإن قيمتها التوجيهية تتفاوت بين بلد وآخر. وهي في الحالة السعودية مهمّة جداً. تجدر الإشارة في البداية إلى أنه في بلد محكوم بغير الرسميات، تصبح تقسيمات الفضاء الاجتماعي المقبولة عادة في العلوم السياسية – دولة / مجتمع مدني، دولة / معارضة- قليلة الأهمية. وعلى سبيل المثال، فإن فرداً من الأسرة الحاكمة لا يشغل منصباً رسمياً في جهاز الدولة يتمتع -لِنَسَبه- بنفوذ محدد في صناعة القرار ربما يتجاوز في بعض الأحيان نفوذَ مسؤولٍ رفيع المستوى من عامة الناس؛ فهل يجعله ذلك فاعلاً من جهة الدولة أم فاعلاً مجتمعياً؟ وبالمثل، ما هو موقع العلماء؟ إنهم وكلاءُ للدولة ويمثلّون المجتمع في الوقت نفسه، وربما يتحدثون باسم الحاكم أو باسم المعارضة وفقاً للظروف. لحل هذه الإشكالية، سوف نعتبر الأمراء والعلماء فاعلين في مجالين اجتماعيَّين محدّدَين يُعرَّفان بدلالة المنطق الذي يحكم كلاً منهما: المجال السياسي والمجال الدِّيني على التوالي. وقد اجتمع هذان المجالان، إلى جانب مجالات أخرى يملك فاعلوها بعض النفوذ في المجتمع في سياق ما يسميه بورديو “ميدان السلطة”. وهذا النموذج النظري يساعد على فهم الديناميات التي فشلت النماذج الكلاسيكية في تصوّرها.

إن مفهوم المجال نافع على الخصوص لأنه ملموس بالفعل في المملكة العربية السعودية حيث يتألف “ميدان السلطة” من مجموعة مجالات بارزة ومعرَّفة جيداً. لإثبات ذلك، نحن بحاجة إلى منظور تاريخي. وهذه العودة إلى الماضي تسمح بفهم الصورة الملموسة لهذه المجالات على نحو أوضح وكذلك درجة استقلاليتها والعلاقات القائمة بينها عندما ظهرت البراعم الأولى للحركة الإسلامية السعودية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

*    *    *    *

سنتحدث في الفصل الثاني، عن تطوّر الصحوة ونبيّن كيف أنها تحدّت تجزئة ميدان السلطة. نشرت الصحوة أيديولوجيتها التي كانت مزيجاً من الوهّابية ومفاهيم موروثة عن جماعة الإخوان المسلمين، وبنت شبكاتها بدءاً بالشبكات العَفوية وانتهاءً بالشبكات الأكثر تنظيماً (التي عُرفت باسم الجماعات الإسلامية)، وذلك انطلاقاً من قاعدة جعلتها حصنها المنيع في النظام التعليمي السعودي. وسرعان ما تمكنت في سياق هذه العملية من ترسيخ نفسها كحركة اجتماعية قوية ومن الانتشار في جميع مجالات المجال الاجتماعي. وأتاحت الفرصة من الناحية النظرية لإقامة اتصال، من خلال شبكات الصحوة واللغة الجديدة التي روّجت لها الحركة، بين عالمَين كانا منفصلَين في السابق، مثل: المجالين الثقافي والدِّيني. وبالتالي فقد مثّلت إمكانيةً مستترةً لتوحيد المجال الاجتماعي. على أن الصحوة عانت من حدود في قدرتها التوحيدية جرى التعبير عنها على الخصوص من خلال بروز حركات إسلامية متنافسة وإن ظلّت أقلّيةً كما سنناقش في الفصل الثالث.

على أن إزالة التجزئة التي كانت محتملة في هذه المرحلة لم تكن كافيةً لإزالة التقطيع الذي اعتمدت عليه سلطة الدولة على المجتمع. وهذا أمر واقع بالنظر إلى أن الصحوة لم تمثّل حركةً معارضةً مناوئةً للحكومة لأنها كانت تطبق خطابها الإسلامي على دول العالم كلها باستثناء المملكة العربية السعودية التي اعتبرتها الدولة الوحيدة التي تستحقّ أن تسمى “إسلامية”. على أنه في أواسط الثمانينيات انطلقت عمليات تعبوية متزامنة، لأسباب ديموغرافية واقتصادية، جنّدت أتباع الصحوة في المجالين الثقافي والدِّيني وعكست تذمّراً متعاظماً بين شباب الصحوة في المجال الاجتماعي. وسنقوم بتحليل هذه التطورات في الفصل الرابع.

عجّل الغزو العراقي للكويت والتواجد العسكري الأمريكي الذي تلاه في المملكة العربية السعودية، في “انتفاضة الصحوة”، وتحليل هذه التطورات هو موضوع الفصل الخامس. جرى تسييس صور التذمّر والتقريب في ما بينها، وتحوّلت التعبئة المتنوعة القطاعات التي ظلّت تختمر لسنين عديدة إلى أزمة سياسية واسعة النطاق، وفي هذا السياق انهار منطق التقطيع، وتمكنت الصحوة التي كان تماسكها محكوماً عادة بعمق الانقسامات بين المجالات، من بناء وحدة. والأهم من ذلك أن إضعاف الفئوية المجالية جعلت التعاون بين القطاعات ممكناً بعد أن كان أبعد من أن يُتصوَّر في السابق. ووحّد مثقفو الصحوة وعلماؤها القوى ودمجوا الموارد، فبات في المقدور تنظيمُ التعبئة وتوطيدُها. وكانت دينامية الاحتجاجات بالغة القوة إلى حدّ أن حركات إسلاميةً كانت منافسةً للصحوة ساهمت في دعمها في نهاية الأمر.

بدت انتفاضة الصحوة التي أعقبت ذلك تعبيراً عن إجماع غير مسبوق وبدا أنها تمتلك الموارد الكفيلة بنجاحها. لكنّ الحركة افتقرت إلى عنصر أساس واحد وهو هياكل تعبوية متينة يمكن الاعتماد عليها لمواصلة الاحتجاجات. على أن مصير الحركة كان الفشل المحتوم حتى قبل أن تتعرّض للقمع من الأعلى وتتصدى لها الحركات المناوئة، التي تدعمها الحكومة، من الأسفل. وهذا يفسّر كيف استطاعت السلطات في أيلول/ سبتمبر 1994، سحق الاحتجاجات بسهولة بالغة كما سنبيّن في الفصل السادس.

كانت مشاركة أفراد في الحركة، ينتمون إلى مجالات متباينة للغاية ويعيشون أوضاعاً اجتماعية مختلفة وبالتالي كانت لهم غايات ووجهات نظر إلى العالم تختلف بعض الشيء، تُسبب صراعات على تحديد معنى ومقصد التعبئة بين أنصارها المتنوعين. وكما سنبيّن في الفصل السابع، عكست هذه المنافسةُ خطوطَ المواجهة بين من ادّعوا وراثة الصحوة التي برزت في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي. والأهم من ذلك أننا سنبيّن أن هذه النزاعات على معنى انتفاضة الصحوة التي بلغت أوجها في سنة 2002-2003، أخفت عدم قدرة سائر المشاركين على إنعاش التعبئة بفاعلية في سياقٍ استعاد التقطيع فيه سلطاته. لذلك، بقي “الإسلاميون الليبراليون”، و”الجهاديون الجدد” وعلماء “الصحوة الجديدة”، الذين كانوا أبعد ما يكون عن تعريض النظام للخطر، أسرى منطق المجال الذي انتمى إليه كل واحد منهم. لذلك، كان كل شيء يشير إلى أن دورة التعبئة التي استُهلَّت في أواسط عقد الثمانينيات من القرن الماضي كانت على وشك الوصول إلى نهايتها.


خاص بموقع “المقال”.
Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق