الخيال السياسي

الكاتب:

24 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات


1

“الخيال أهم من المعرفة. فالمعرفة محدودة حول ما نعيه ونفهمه، بينما الخيال يشمل العالم وكل ما سيكون هناك لنعيه ونفهمه مستقبلا” -ـ آلبرت آينشتاين

“Imagination is more important thank knowledge. For knowledge is limited to all we know and understand، while imagination embraces the entire world، and all there ever will be to know and understand” – Albert Einstein

____

في عامي ١٩٥٣ و ١٩٥٤ قام الرسام البلجيكي هيرجيه (Herge) مؤلف سلسلة قصص الأطفال المصورة الشهيرة “مغامرات تان تان” (The Adeventures of Tin Tin) بتقديم مغامرتين بعنوان “تان تان ووجهة القمر” (Destination Moon ) و”تان تان واستكشاف القمر” (Explorers on the Moon). اللافت في هذه المغامرة التي أبدع هيرجيه في تصويرها هو مدى تطابقها مع واقع قيام الإنسان برحلة إلى الفضاء الخارجي والنزول فعلا على سطح القمر، علما أن هذه القصة نشرت قبل ١٦ عاما من قيام الولايات المتحدة بإرسال المكوك أبوللو ١١ الذي حمل أول رائد فضاء يضع قدمه على سطح القمر (نيل ارمسترونج) في يوليو ١٩٦٩.

خلال القصة التي تدور أحداثها فوق سطح القمر قام هيرجيه بتصوير شخصياته وهم يرتدون ملابس رواد فضاء مشابهة لحد كبير لتلك التي ارتداها الرواد الأمريكيون بالفعل، كما أظهرت القصة أيضا عدة حقائق مثل اختلاف الجاذبية على سطح القمر وغيرها من الأمور التي تجعل مشاهدة القصة اليوم تتطابق مع المفاهيم العلمية السائدة حول الفضاء، والأبرز هو أن هذه المغامرة قدمها هيرجيه حتى قبل بدء السباق نحو الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، الذي بدأ بقيام السوفييت بإرسال أول قمر صناعي إلى الفضاء (سبوتنيك ـ ١) في عام ١٩٥٧ وكذلك أول قمر صناعي يحمل كائنا حيا (سبوتنيك ـ ٢) الذي حمل الكلبة “لايكا”؛ وذلك لدراسة إمكانية إرسال بشر إلى الفضاء.

بعد عودته إلى الأرض تلقى رائد الفضاء الأمريكي نيل ارمسترونج رسالة من هيرجيه حملت رسمة له لحظة نزوله من المكوك على سطح القمر ليجد “تان تان” ورفاقه يرحبون به بالقول “مرحبا بك في القمر سيد ارمسترونج”. ربما بهذه الرسالة أراد هيرجيه أن يؤكد أهمية الخيال في الدفع بالواقع، وعلى كونه نقطة الانطلاق نحو الواقع الجديد. لقد كان خيال هيرجيه سباقا ولكنه لم يكن خيال يستند إلى أحلام بقدر ما يستند إلى أسس معرفية، وهنا مربط الفرس بين الخيال الذي ينطلق من دوائر التمني وبين الخيال الذي ينطلق من الواقع ليعيد صياغته، فهرجيه بدأ الإعداد لقصته تلك منذ عام ١٩٥٠ من خلال دراسة وبحث مكثف حول هذه الفكرة، لذلك جاءت فكرته قوية وراسخة وجاءت نتيجتها على قدر المشقة.

2 

“الحقيقة ليست سوى وهم، لكنه وهم ثابت” ـ  آلبرت آينشتاين

“Reality is merely an illusion, albeit a very persistent one” – Albert Einstein

ــــــــــ

قد يندرج المثال السابق تحت باب الخيال العلمي، هذا الخيال كان -وما يزال- المحرك الرئيس للتقدم والتطور العلمي الذي شهده العالم في القرن العشرين بدءا من علوم الفضاء ومرورا بالطب والهندسة والتكنولوجيا. ففي كل مرة نحرز تقدما علميا سنجد بصورة أو بأخرى “تان تان” ما، يقول لنا: مرحبا بكم لقد وصل فكرنا هنا منذ مدة. لكن هل هناك باب للتساؤل حول دور الخيال في مجالات العلوم الإنسانية، وبالأخص هل يلعب الخيال دورا في السياسة؟

الربيع العربي طرح هذا التساؤل من خلال الصدمة التي أحدثها، فسياسيا يمكن القول أن الربيع هو نتاج قصور كبير في المخلية السياسية العربية، وهو القصور الذي دفعنا -وما نزال- ندفع أخطاءَه. عجْز العقلية العربية عن تنمية الخيال السياسي (Political Imagination) لديها، وهو ما جعلها ضعيفة أمام تحديات واقعها، وعن فهم واقعها نفسه، فلم تتمكن من توليد رؤى استشرافية للمستقبل تواجه بها هذه التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء. هذا الجمود في الخيال السياسي العربي جعل السياسات قاصرة لا ترى سوى موطأ قدمها، وفي أغلب الأحيان متأخرة في المنافسة مع الأمم الأخرى.

الخيال السياسي ليس مجرد تغيير في الأدوات والأساليب السياسية، هو رؤية ذات بعد عميق تستشرف المستقبل أو تعيد قراءة الواقع من منطلقات ومقاربات مختلفة جوهريا عن السائد والنمطي. الأمم المتحدة مثال على الخيال السياسي فهذه المنظومة الدولية التي تشكل اليوم المظلة العالمية للدول كانت قبل ١٠٠ عام فقط أمرا مستبعدا من المخيلة السياسية العالمية، فتصور عالم يكون مترابطا بهذا الشكل الإداري لم يكن ليجد في عقول الكثيرين أرضية يستند إليها، ذلك أن قراءة الواقع في حينها كانت محدودة بوهم الثبات، واليوم لا يمكن تصور شكل للعالم دون وجود للأمم المتحدة التي باتت جزءا من واقعنا نتلمسه في كل شيء، كيف نظر المؤسسون للأمم المتحدة لها في حينه؟ وماذا دار في خيال أصحاب الفكرة؟

السياسة الخارجية على سبيل المثال تواجه عدة تحديات، وأمام هذه التحديات تعتمد على أدوات سياسية واقتصادية وإعلامية معينة تنطلق من المنهج الرئيس المحرك للسياسة الخارجية. الخيال السياسي هنا ليس مجرد تطوير عامل الابتكار وإدخاله لهذه الأدوات، وإنما هو استشراف منهج مختلف، بتغييره أعيد تشكيل الرؤية المتعلقة بالسياسة الخارجية بأكملها. تركيا مثال بارز على هذا الامر، فهذه الدولة التي باتت اليوم جزءا رئيسًا من منطقتنا ومن مشاكلها وحلولها وتنميتها وتحدياتها لم تكن قبل عشر سنوات فقط على الخارطة العربية، ولم يكن العرب في مخيلة الأتراك شعبا وقيادة. لم يحدث أي تغير على الأرض يدفع بتركيا الجديدة في هذه المنطقة، ما حدث فقط كان تغيرا في الخيال السياسي التركي دفع به حزب العدالة والتنمية وتحديدا منظِّر سياساتها الخارجية داود أوغلو، الذي أعاد تقييم الفرضيات التي يستند إليها واقع السياسة الخارجية التركية، فأبدل في العقول فرضيات مكان أخرى وأطلق خيالا سياسيا جديدا نراه اليوم ماثلا أمامنا على صعيد السياسة الخارجية التركية في المنطقة.    

 

3

“الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرة بعد مرة وتتوقع نتيجة مختلفة” ـ آلبرت آينشتاين

“Insanity: doing the same thing over and over again and expecting different results” – Albert Einstein

ــــــــــ

إن العائق الرئيس أمام الخيال السياسي هو العقل نفسه، ذلك العقل الذي يصر على فرض حدود وهمية عليه، تضيق هذه الحدود مع التحديات بدلا من أن تتسع. الخيال السياسي النشط قد يدفعنا لتوليد رؤى وأفكار ومناهج جديدة سواء داخليا فيما يتعلق بالتحديات الاقتصادية كالبطالة أو التحديات الاجتماعية والأمنية، وعلى صعيد السياسية الخارجية فالخيال أيضا قد يتيح لنا رؤية تدفع بمصالحنا بشكل أكبر وأعمق مما هي عليه بدلا من مجرد محاولة الاستمرار أو الحفاظ على الأنماط السائدة، فالربيع العربي على سبيل المثال جاء كطوفان غيَّر ملامح المنطقة، وما نزال أمامه نتعامل بذات الرؤى والمناهج الفكرية القديمة وإن تغيرت أدواتنا وأساليبنا السياسية. إن استراتيجيتنا تسمح لنا بالتعامل الوقتي ولكن عجز الخيال السياسي لدينا يحدنا من الاستفادة بأقصى قدر من الفرص مستقبلا.

عجز الخيال السياسي لدينا نابع من عجز المؤسسات في المقام الأول عن توليد مثل هذا الخيال، وإذا كانت البيروقراطية بطبيعتها تجنح نحو الروتين ونحو إيجاد أساليب عمل قياسية ثابتة تتبعها دون كثير من الحاجة للتغيير، فإن مؤسساتنا للأسف تعاني مما يعرف بـ “متلازمة لم يصنع هنا” (NIH Syndrome ـ Not Invented Here) وهي أحد التوصيفات في حقل دراسة السلوك داخل المنظمات (Organizational Behavior)، ويشير التوصيف إلى ثقافة المؤسسات القائمة على رفض الأفكار أو الحلول أو المقترحات التي تأتي من خارجها، وما لم تكن الفكرة وليدة داخل المؤسسة نفسها فإنها تعادي أي فكرة مبتكرة من خارجها، ولكن المعضلة تظهر عندما تصبح هذه المؤسسات عاجزة وفاقدة لقدرة “الخيال”. كم من المقترحات والأفكار المبتكرة تعرض على مؤسساتنا العامة سواء من خلال الإعلام أومن خلال الخبراء وغيرهم وكم منها حقيقة تتبناها تلك المؤسسات؟

عمل المؤسسات بالتالي يصبح إعادة تكريس وإعادة تدوير لما هو منتج قديم لهذه الوزارات دون أي خيال سياسي. ينطبق الأمر على تعاملنا مع مشكلة البطالة، التي ما تزال تراوح نفسها منذ سنين، كما تنطبق على سياساتنا الخاصة بالأمن والعلاقات الإقليمية على سبيل المثال. ولذا نحن نكرر في كثير من الأحيان نفس الأخطاء وإن كان بأشكال متعددة نتيجة تغييرنا للأدوات والأساليب التي نستخدمها، ولكن الفكر والمنهج ما يزال نفسه دون خيال قادر على النظر للمشكلة والحلول بطريقة ومنهج مغاير تماما.

4

“لا يمكننا حل المشاكل باستخدام نفس العقلية التي أنشأتها” ـ آلبرت آينشتاين

“We can’t solve problems by using the same kind of thinking we used when we created them” – Albert Einstein

ــــــــ

لهذه المتلازمة شق مهم وهو مسألة المشاركة بالمعلومة، فالخيال هو نتاج بيئة خصبة من التفكير تحتاج لتوسع عمودي من جهة عمق المعلومة المتاحة، وتوسع أفقي من جهة إتاحتها لقدر أكبر من الأشخاص. فحتى داخل المؤسسات عندما تترسخ ثقافة معاداة الابتكار من داخلها وحصر هذا الأمر على فئات محددة في الصفوف العليا؛ فإن عملية توليد الخيال تصبح عاجزة ومحصورة في نطاق ضيق هو بالأساس غير مهيأ لتوليد مثل هذا الخيال.

هنا يظهر الدور الحقيقي لمجموعات التفكير، أو مؤسسات الفكر والرأي أو بيوت الخبرة (Think Tanks) أيا كان مسماها. فالغياب الواضح لدور هذه المؤسسات على صعيد عملية صنع القرار وتوليد الخطاب سواء الداخلي أو الخارجي يتجلي في الغياب الواضح للخيال السياسي في سياساتنا.

مراكز التفكير تشكل في الغرب المنصة الرئيسة لتجديد الأفكار وطرح المقترحات الخلاقة للتعامل مع المشاكل والتحديات السياسية، وليس أبلغ على ذلك من دور مثل هذه المراكز في الغرب وبخاصة في الولايات المتحدة حيث تلعب هذه المراكز دورا مهما في إنتاج المعرفة والدفع بالخيال السياسي قدما. في الولايات المتحدة يتداخل عمل المؤسسات الرسمية بمؤسسات الفكر هذه على عدة أصعدة، فهذه المؤسسات تشكل مراكز صقل معرفية للسياسيين سواء الذين ينطلقون منها للعمل العام أو العكس، حيث ينتقل إليها موظفو المؤسسات الرسمية ناقلين معهم خبراتهم ومعرفتهم. هذا التداخل أوجد نوعًا من التناغم بين كل من مؤسسات الدولة الرسمية (المهتمة أكثر بتفاصيل العمل والتنفيذ) وهذه المراكز (المهتمة أكثر بالخيال الفكري والبحث والدراسة). لقد بات الإنتاج المعرفي لهذه المؤسسات ركنا مهما في عملية صنع القرار السياسي في أغلب الدول.

على صعيد آخر انتقل جزء من عبء الدولة لهذه المؤسسات التي تفرغت للتفكير والبحث والدراسة، فأصبحت مثل هذه المراكز خلاقة ومبتكرة في طرح مقترحات تعتمد على أفق خيال سياسي واسع، فساهمت في محافظة تلك الدول على الأسبقية التي نراها اليوم. في الولايات المتحدة يوجد ما لا يقل عن ١٣٠ مركزًا ومؤسسة تفكير كبيرة في كل المجالات الإنسانية والاجتماعية، مما ساعد على إيجاد زخم نتائجه هو ما نراه من استمرار تسيد هذه المراكز على صعيد الخيال السياسي. في المقابل كم مركزا أو مؤسسة بحثية جادة لدينا في السعودية؟ ربما واحدة أو اثنتان على أقصى تقدير. ومع ذلك لا ترقى للمستوى الأدنى المطلوب لكي نطلق عليها مركز تفكير. إننا نفتقد الخيال السياسي بشدة وفي مقابل ذلك نتشدد في الأفق الفكري الضيق القائم لدينا، الذي هو بالأساس بسبب ضيق عقولنا عن أن تتسع لمزيد من الخيال.

 

5

“أهم شيء ألا تتوقف عن التساؤل” ـ آلبرت آينشتاين

“The important thing is not to stop questioning” – Albert Einstein

______________

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق