تطبيق الشريعة والحكم بما أنزل الله

الكاتب:

7 ديسمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

د. خالد المصلح

ليس ثمة نقاش بين أهل الإسلام في أن ما كان فيه حكم لله ولرسوله فالواجب على  الناس التسليم لحكم الله ورسوله، والأدلة من الكتاب والسنة في تقرير هذه القضية أكثر من أن يحويها مقال، ومن أبرز تلك النصوص نفي الله تعالى الإيمان عمن لم يُسلم الحكم في النازعات لنبيه الكريم قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)، وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36).

فوجوب الحكم بما أنزل الله أجمع عليه علماء الإسلام، فقالوا: إن من استحل أن يحكم الناس بغيره فهو كافر. يقول ابن تيمية رحمه الله:« ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله، فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير إتباع لما أنزل الله فهو كافر». فهذا أمر حسمته النصوص حسمًا لا يتردد فيه مؤمن ولا مؤمنة.

ومما يجدر التنبه إليه في هذا الموضوع أن الحديث عن تطبيق الشريعة ليس حديثا عن وجوب الحكم بما أنزل الله، بل بينهما فرق فتطبيق الشريعة هو بذل الوسع والجهد في تفعيل الحكم بما أنزل الله في حياة الناس وواقعهم. فالكلام في تطبيق الشريعة هو من باب تحقيق المناط، فلا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وهو مما تراعى فيه المصالح والمفاسد والزمان والمكان والقدرة والإمكان، وكل هذا من مواضع الاجتهاد الذي تختلف فيه الأنظار.

وبناء على هذا فإن من يرى التدرج في تفعيل الحكم بما أنزل الله في حياة الناس والعمل على تهيئة الحال المناسبة لتطبيق الشريعة لا يلزم أن يكون قد أتى زورًا أو غشي فجورًا فضلا عن أن يظن به ظن السوء، فيرمى بأنه منكر لوجوب الحكم بما أنزل الله أو أنه منافق. ذلك أن تطبيق الشريعة واجب من واجبات الشرعية التي يحكمها قانون الاستطاعة الذي ينتظم كل التشريعات (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: 16)، وقد عمل بذلك الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فحمل الناس على المستطاع من العدل وأقره علماء زمانه، وفي المراجعة الشهيرة بينه وبين ابنه عبد الملك ما يبين ذلك، فقد رُوي أن ابنه عبد الملك قال له: يا أبت لم لا تنفذ الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور! فقال له عمر-رضي الله عنه-:”لا تعجل يا بني، فإن الله ذمّ الخمر في القرآن مرّتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة”. قال الشاطبي معلقًا بعد سياق خبر عمر:”وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي”.

وقال ابن تيمية مقررا هذا المعنى:” لو فُرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق أو إضاعته لذلك؛ لكان ذلك الفرض على القادر عليه”.

فمراعاة الحال بالتدرج في تطبيق الشريعة في البلدان التي غيبت فيها الشريعة عن الحكم لعقود متطاولة هو من فقه الممكن الذي دلت عليه النصوص لاسيما أن التحديات المعيقة عديدة على المستوى الداخلي وكذلك على المستوى الخارجي. وهذه المراعاة في التطبيق هي تدرج في تحقيق سيادة الشريعة التي بها تسود الأمة فإنه بقدر تحقيق السيادة لشريعة الله المنزلة تتحقق للأمة السيادة والريادة. ولا أدل على ذلك من حال الأمة في صدر الإسلام فإنهم لما جعلوا السيادة للشريعة في حياتهم على الصغير والكبير والشريف والوضيع دون تمييز؛ عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:”لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”، سادت الأمة الأمم فتحقق على أيديهم أعظم فتحا عرفته البشرية وأسرع انتشارا عهده الناس فدخل الناس في دين الله أفواجا. ولا امتراء أن الأمة اليوم لما أزاحت عنها أنظمة الاستبداد التي جثمت عليها منذ عقود وتنفست عبق الحرية وترك لها الخيار في أن تختار النظام الذي يحكمها كانت الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في الصدارة، وهذا يتجاوز كونه تصويتا لأشخاص فهو في الحقيقة تصويت لمرجعية تلك الأحزاب. ومع كل هذه البشائر يبقى أن موضوع تطبيق الشريعة في مجتمعات عانت من الظلم والبطش والتخلف والفساد بكل صوره وأشكاله أمر محفوف بمخاطر جمة تستدعي نظرا فاحصا وعملا دؤوبا وأناة راشدة وموازنة دقيقة بين المصالح والمفاسد ومراجعة دائما، لئلا تخفق التجربة.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق