الأجوبة على اعتراضات مقالة سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة

الكاتب:

18 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

1

 بداية أريد أن أقول بأنني سعيد بالحراك والجدال والنقاش الواسع الذي أحدثته مقالة (سيادة الأمة) . وأعترف بأن هذا هدف من ضمن أهداف نشر هذا الموضوع بهذه اللغة الواضحة والصريحة والبعيدة عن أي منطقة رمادية أو أساليب موهمة، لأن هذا الوضوح هو الذي سيحرك المياه الراكدة وهو الذي سيدفع بالكثيرين لإعادة القراءة في فقهنا من جديد وفق متطلبات الواقع المعاصر، ومن ثمَّ إعادة تنظيم وترتيب النظرية السياسية في التصور الإسلامي المعاصر أو على الأقل الشروع في تنظيرها بصورة مغايرة عن التنظير الذي حصل خلال العقدين الماضيين والذي كانت مثل هذا القضايا في اللامفكّر فيه. ومن هنا كان هذا الصدى الذي أحدثته المقالة مفرحا ويعود إلى النفس بالرضا . ولا أحب أن أخفي هذا الفرح لأجل التظاهر بالتواضع، فمن الطبيعي أن كل باحث وكاتب يفرح ويسعد حين يجد لأفكاره صدى وانعكاس كبير بين قرائه ومتابعيه . هذا أولا .

ثانيا : أحب أن أقول أيضاً أنني حين كتبت تلك المقالة حاولت أن أشرح فيها فكرتي بكل ما أملك من قدرة في الشرح والإيضاح، للدرجة التي جعلت البعض ينتقدني ساخرا بأني تكلفت جدا في شرح فكرتي أكثر من اللازم وأعدتها أكثر من مرة وبصورة مختلفة وبعبارة أخرى وبمعنى آخر وكأني أخاطب عقليات لا تفهم ولا تدرك الخطاب لأول وهلة، أو كأني – لا سمح الله – أستصغر وأستغبي بعض العقليات، وهذا لا يليق بالكاتب؛ أن يتعامل مع قرائه بهذا الانطباع، فالكاتب يجب أن يفترض بأن القارئ لديه عقل وفهم وعلم، خاصة من لديه اهتمام بمثل هذه القضايا، بل قد يكون القارئ أكثر عقلا وفهما وعلما من الكاتب . وبالتالي فالتنزّل في الشرح والإيضاح لدرجة الإملال أحيانا قد يخلق هذا الانطباع السيئ لدى القارئ .

لا أخفيكم كنت أخشى فعلا من هذا الانطباع السيئ الذي قد يشعر به القارئ .. ولكن حين اطلعت على مهرجان الردود والاعتراضات التي بالمناسبة لم تكن منصبة على فكرتي وإنما على فكرة أخرى لم أتعرض لها ولم أناقشها، وكذلك حفلة الردح والرفس والكيل بالتهم والقذف وهي بالمناسبة كثيرة لحدّ الذهول .. ارتحت حينها نفسيا وعرفت بأن التكلف الذي بذلته في إيضاح الفكرة كان مستحقا .. بل أيقنت بأن الأمر يحتاج إلى بذل مزيد ومزيد من التكلف لإيضاح الفكرة .. وإن كنت مؤمنا بأن ثمة عقليات لو نشرح لها بأن الشمس ليست كالقمر وأن السماء ليست كالأرض وأن البحر ليس كاليابس فلن تفهم ذلك أو بالأصح لا تريد أن تفهم .. مثل هذه العقليات ليس من الحكمة أن يبدّد العاقل وقته وعمره في إفهامها، كما أنه لا يصح أن يكون خطاب الباحث والكاتب مجرد صدى لردود الآخرين وانفعالاتهم كما هو حال البعض الذين لا أجد في كتاباتهم إلا صدى لأفكار المخالفين لهم . والباحث في النهاية مسؤول عن توضيح فكرته – قدر المستطاع والإمكان – ثم يمضي في إكمال بناء مشروعه .

ثالثا : وجدت غالب الاعتراضات والردود تضرب في أرض غير أرضي التي حددتها ورسمت مساحاتها وتظن بأنها أرضي، يناقشون فكرة لم أتعرض لها ولم أناقشها أصلا، اختلقوا في أذهانهم شخصا آخر غير شخصي ومقالة غير مقالتي ونسبوا إليها فهمهم ثم اشتغلوا بالاعتراض والنقد على ذلك الفهم الذي اختلقوه أيضا . طبعا أتحدث هنا عن الاعتراضات والردود التي تبدو في ظاهرها العلمية والموضوعية ولكنها لم تناقش مقالتي بل ناقشت شيئا آخر . وأستثني بعض النقاد والمعترضين الذين استفدت حقيقة من نقدهم واعتراضهم لا لشيء إلا لأنهم قرؤوا مقالتي بوعي واعترضوا على فكرتي التي أعنيها لا على فكرة اختلقوها في أذهانهم .

لكن في النهاية هذه الاعتراضات سواء كانت لفكرتي أو لفكرة أخرى مختلقة تبقى جديرة بالاهتمام والاحترام ومحاولة الإجابة عليها . وحديثي هنا عن الاعتراضات العلمية وأما الشتائم والسباب والقذف بالنفاق والروغان والزيغ والانتكاس والاتهام بتجويز الحكم بالطاغوت والعلمانية ونحو ذلك .. فهذه تطوى عندي ولا ألتفت إليها وليس من الحكمة والعقل أن يقف الإنسان عندها بل المنهج الصحيح في التعامل معها هو المنهج القرآني: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) .

رابعا : من حيث المبدأ لا يمكن لي أن أرفض ممارسة النقد والاعتراض على مقالتي، فالمعترضون يمارسون حقهم الطبيعي في قراءة المقالة والتعاطي معها، من خلال النقد والتقويم بل ورفضها بالكلية إذا اقتضى الأمر وفق خلفيتهم الشرعية والفكرية .. يبقي هذا حق للقارئ .. وفكرتي مهما اعتقدتُ بصوابها ليست معصومة من الزلل والخطأ، فنحن بشر في النهاية يعترينا السهو والجهل والغفلة . فلا إشكال إذن في الاعتراض والنقد والرفض من حيث المبدأ، إنما الإشكال حين يكون النقد والاعتراض على فكرة هي ليست فكرتي . وحينها سيكون رفض الفكرة والاعتراض عليها بصورتها المشوَّهة والمزوّرة لا بصورتها الحقيقية كما يريدها كاتبها . أن يتم رفض الفكرة بعد فهمها كما هي في نفس الأمر أهون وأكثر عدالة من رفضها بدون فهمها أو فهمها على غير صورتها . وهذا ما يسميه بعض المفكرين بـ (بتزوير المعرفة) الذي لا يقّل فداحة عن تزوير الأشياء الحسية .

ولذا فإن هذه المقالة التعقيبية لن تكون لأجل الإقناع، بقدر ما تكون للإفهام وتوضيح الملتبس، وبعد الفهم من حق القارئ أن يقبل فكرة المقال أو يرفضها .

لأدخل الآن في البيان، وسأعيد فكرة المقال مرة أخرى بأسلوب آخر وبشكل مختصر .. وأرجو من الله المعونة والتوفيق وأن يمنحني قدرة خارقة لأجل إفهام هؤلاء البعض !!

– 2 –

الشريعة الإسلامية في مبادئها وقيمها وكلياتها وأحكامها القطعية هي الإطار العام والمرجعية النهائية للتشريع في الإسلام . ووجوب التحاكم إلى الشريعة والالتزام بها أصل من أصول الدين وقضية محكمة من محكمات الشرع؛ وهي مقتضى الشهادة الرسالية التي تعني الاعتقاد بوجوب ((الاتباع)) المطلق و((التسليم)) الكامل لصاحب الشرع عليه أفضل الصلاة والسلام . وليس لمسلم إذا ثبت عنده حكم الله ورسوله أن تكون له ((الخيرة)) من أمره ما دام أنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن هذا مقتضى شهادته التي دخل بها الإسلام .

وبالتالي فالشريعة من حيث المبدأ ((لازمة)) على كل مؤمن ومؤمنة – سواء على المستوى الخاص أو على المستوى العام – ما دام أنه عقد الإيمان مع الله عز وجل . وعقد الإنسان مع الله أعظم وأجل وأقدس من عقد الإنسان مع غيره . والنصوص القرآنية التي تؤكد على هذا الأصل العظيم كثيرة جدا، كقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء 56) . (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب 36) . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . (هم الظالمون) . (هم الفاسقون) (المائدة 45 – 48) وغير ذلك من النصوص الكثيرة .

إذن مسألة التحاكم إلى الشرع قضية محكمة من محكمات الدين . من جحدها كفر ومن تركها دون جحود فهو ظالم لنفسه مرتكب للكبيرة على أصح القولين عند العلماء .

بعد هذه المقدمة العقدية .. عليك أن تعرف عزيزي القارئ أن هذه القضية لم يتطرق إليها المقال كليا، ولم يعرّج عليها، وبالتالي ليست هي موضوع المقال من الأصل .. ومع ذلك للأسف كانت هي قطب الرحى لغالب الردود والاعتراضات العجيبة !!

علي أية حال .. هذه المقدمة العقدية لم أطرحها لكي أدفع تهمة ونحو ذلك كما قد يتصور البعض، فإنني لو لم أكن أعتقدها لما كتبتها، إنما ابتدأت بهذه المسلمة العقدية لكي أراعي التدرج في التفهيم والشرح لبعض المعترضين ثم نبني عليها . فهي من باب حدثوا الناس بما يعقلون .

لنكمل ..

إذا ثبت أن اتباع الشرع والتسليم لحكم الله والرسول ((لازم)) على كل مسلم ومسلمة، سواء على المستوى الخاص (الالتزام الذاتي) أو على المستوى العام (فضاء الدولة) . وهو مقرر وثابت ومحكم في كتاب الله تعالى . فلننتقل حينها إلى المربع الثاني .. وهو :

من ينقل هذا الأصل المقرر والثابت والمحكم في كتاب الله تعالى من (المستوى الخاص) إلى (المستوى العام) أي إلى نظام دستوري يكون ملزم للحاكم والمحكوم ؟ كيف يتم تجسيد وتطبيق هذا الأصل في الواقع ؟ من يختار الشريعة ((الملزمة)) كمرجعية عليا ويجعلها دستورا للبلاد ؟

الجواب بحسب ما قلته في المقال : من يملك السيادة هو من يستطيع أن يجسد ويطبق هذا الأصل العظيم في الواقع، أقصد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) .. من يملك السيادة هو من سينقل هذا الأصل المقرر والثابت والمحكم في كتاب الله تعالى إلى نظام دستوري يكون ملزما للحاكم والمحكوم .

لماذا أقول بقبلية (السيادة)، وبلغة واضحة وصريحة ؟

الجواب:  لأن الشريعة ليس لها إرادة وقدرة لكي تطبق نفسها بنفسها في الواقع . هي مفتقرة للإنسان الذي يؤمن بها حتى تتجلى وتتجسد عبر ممارساته في الواقع . وهذا الإنسان – الذي يملك الإرادة والقدرة – إذا آمن بالشريعة يمكنه من خلال إرادته وقدرته أن يجسّد مبدأ ((إلزامية الشرع)) على المستوى الشخصي في حياته، ليس ممكنا فحسب بل هو واجب عليه ومكلّف بهذا وهو مقتضى عقد الإيمان، هذا بالنسبة على المستوى الشخصي (أي الحيّز الخاص) بالمفهوم القانوني .

لكن على المستوى العام (=الحيّز العام) بالمفهوم القانوني أي فضاء الدولة . والذي يشترك الفرد فيه مع غيره من أفراد المجتمع .. كيف يمكن للمؤمن في مثل هذا الفضاء أن يجسد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) ؟ كيف يمكنه أن ينقل مبدأ ((إلزامية الشريعة)) من المستوى الشخصي إلى المستوى العام ؟

طبعا لماذا يسعى المؤمن لكي تكون الشريعة ملزمة على المستوى العام أيضا ؟

الجواب : لأن الشريعة في الإسلام ((ملزِمة)) فعلا على المستوى الخاص وعلى المستوى العام . وليس فقط على المستوى الخاص كما توهم البعض ! ولا أدري من أين فهمه من مقالتي ؟ بل الأعجب أن هناك من ذهب إلى أني أسقط مبدأ الإلزام بالكلية !! وهنا لا أملك إلا أن أصمت مذهولا مندهشا .

(بالمناسبة: حديثي هنا عن تطبيق الشريعة في الحيز العام؛ أي في جانبها القانوني لا في جانبها الذاتي، فالشريعة ليست كلها إلزام قانوني، منها ما هو أحكام قانونية كالأحوال الشخصية والحدود الشرعية ونحو ذلك . ومنها ما هو التزام ذاتي فردي لا يصح أن تتدخل وتتوغل فيه الدولة بالإلزام وهو الجانب الأكثر في الشريعة . وهذا موضوع آخر ليس هذا مقام البحث فيه، لكني أشير إليه حتى لا يفهم البعض من تطبيق الشريعة أن تقوم الدولة عبر سلطة القانون بإلزام جميع أفراد الشعب بجميع مسائل الشريعة، فهذا معارض لقواعد الشريعة ومقاصدها ولم يقع لا في عهد النبي ولا في عهد خلفائه الراشدين، وهذا ما وقعت فيه دولة الطالبان وغيرها. ولهذا لا يكون الإلزام إلا في الجانب القانوني من الشريعة .. ما هو الجانب القانوني وما هو الالتزام الذاتي من الشريعة ؟ وما الضابط في الفرق بينهما ؟ هذا ما سيكون في مقالة لاحقة بإذن الله .. انتهت الحاشية ولنقفل القوس) .

– 3 –

إذن سؤالنا .. على المستوى العام .. كيف يمكن للمؤمن أن يجسّد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) الذي هو ملتزم به أصلا ولكن على المستوى الخاص ؟

الجواب : لا يمكن – بديهيا – لأي فرد أن يفرض ويجبر الآخرين بشيء ما لم تكن بيده السيادة والتي من خلالها يمارس سلطته، لا يمكن عقلا وحسا، فالإنسان في الفضاء العام هو مجرّد فرد ضمن أفراد المجتمع لا يمكنه من حيث القدرة أن يفرض عليهم قناعاته دون أن تكون له السيادة ودون أن يتسلط عليهم . فإذا أراد الإنسان أن يفرض قناعاته على الآخرين فعليه أولا أن يمتلك السيادة ويتسلط عليهم، بغض النظر عن مشروعية هذه السيادة وهذا التسلط: هل كان عبر إرادة الأمة أم عبر التغلب . المهم لا إجبار ولا إلزام بلا سيادة . وبدون تحصيل هذه السيادة لا يستطيع أن يفرض أحدٌ على أحد .

ولهذا لم يتسلط النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بل قام داعيا مبشر ونذيرا، بل وما تسلط الأنبياء عليهم السلام على أقوامهم وألزموهم بالشرائع إلا من كان منهم ملكا من حيث الأساس. لم يكن هذا منهج الأنبياء عليهم السلام بل كان منهجهم وفق مسار: (بشيرا ونذيرا) وما كانوا يمارسون (الإلزام والإجبار) مع أقوامهم، لأن الإلزام والإجبار فرع عن السلطة التي هي فرع عن السيادة . ولهذا النبي صلى الله عليه لم يطبق مبدأ ((الإلزام في الشريعة)) إلا حين تقلّد السلطة في المدينة عبر تفويض أهلها له، في بيعة العقبة الأولى والثانية ووثيقة المدينة .

إذن (السيادة) مقدِّمة ضرورية عقلية حسية شرعية لأجل تطبيق الشريعة .. لأجل تجسيد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) .. ولا يمكن لأحد من الخلق أن يطبق الشريعة في الواقع على المستوى العام ما لم يمتلك السيادة أولا .. والتي تنبثق من خلالها جميع السلطات .

نعم الشريعة ((ملزمة)) في نفسها وحاكمة على المؤمن في شؤونه الخاصة والعامة وليست محل للاختيار ولا يسع المسلم ولا المجتمع إلا الالتزام بالشريعة وهذا لازم كونه مسلما .. ولكن من يجسَّد هذا ((الإلزام)) دستوريا وقانونيا، أي على المستوى العام ؟

الجواب :

ليس أمامنا إلا حالتين :

إما عن طريق سيادة (الفرد المتغلب) وإما عن طريق سيادة (الأمة بمجموعها) . وليس هناك خيار ثالث. لأن الشريعة لا تملك القدرة والإرادة لكي تلزم نفسها بنفسها .

ومع ذلك .. تستغرب أن يأتي بعض المعترضين ويقول: السيادة لا تكون لأحد من الخلق .. السيادة للشريعة فقط !!!

حسنا .. أتعلمون ما معنى هذا الكلام ؟

وأرجو أن يتحملني البعض . لأني سأبدأ الآن في شرح البديهيات العقلية ومآلات إنكارها، وشرح البديهيات ثقيل على نفوس العقلاء . ولكن ما الحل ؟ مكره أخاك لا بطل !!

إذا قلنا : ((السيادة للشريعة)) فهذا يعني أن الشريعة كائن حي يملك القدرة والإرادة .. يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويجلس على عرشه ويأمر وينهى !

وبالتالي .. الشريعة هي التي تطبق نفسها في الواقع ! وهي التي تنقل نفسها من كونها منظومة من القيم والأحكام والمبادئ إلى كونها دستورا للبلاد .. وليست بحاجة إلى تصويت واستفتاء الأمة كما يقول التنويريون (هداهم الله) .. كما أنها ليست بحاجة لحاكم متغلب مستبد يفرضها بالقوة والقهر كما يقول غالب السلفيين .. لأنه لا سيادة لأي واحد منهما .. لا الأمة ولا الحاكم الفرد .. إنما السيادة للشريعة فقط.

بل حتى المعترضين على سيادة الأمة – بناء على اعتراضهم – لا يحق لهم أيضا أن يطبقوا الشريعة على المستوى العام عبر الإلزام والإجبار لأنهم لا يمتلكون السيادة، والفرض والإجبار والإلزام لا يكون إلا لمن يمتلك السيادة .. والسيادة للشريعة فقط !!!

فإذا كانت الأمة لا تمتلك السيادة .. والحاكم الفرد المتغلب المستبد لا يمتلك السيادة .. وكذلك المعترضون أنفسهم أيضا لا يمتلكون السيادة .. إذن من يطبق الشريعة ويجسد مبدأ ((الإلزام)) المتضمن بداخلها ؟

الجواب : يجسّد مبدأ ((الإلزام)) على المستوى العام من يمتلك السيادة .. والسيادة للشريعة فقط !!

ولهذا – بناء على هذا المنطق – إذا أردنا أن نطبق الشريعة في ولاية (لاس فيغاس) بأمريكا مثلا .. فيكفي أن نرسل القرآن وصحيح البخاري (زادهما الله تشريفا) إلى (لاس فيغاس) ونضعهما في أحد البيوت الفخمة وعلى أحد الرفوف المذهّبة .. وبإذن الله لن تمرَّ سنة إلا ولاس فيغاس بدون ملاهي وفنادق للدعارة والقمار !!

كيف ؟!

الجواب : أن الشريعة تملك السيادة، وبالتالي إذا دخلت إلى ولاية لاس فيغاس فلن تكون السيادة حينها للسكان ولا لحاكم الولاية المنتخب .. بل ستفرض الشريعة قيمها ومبادئها بناء على مبدأ ((الإلزام)) المتضمن في مفهومها القرآني . فهي ملزمة بنفسها وليست بحاجة إلى سيادة أحد لكي تحقق إلزامها .

قد يقول قائل : نحن نتكلم عن مجتمع مسلم ؟ وحكم المجتمع المسلم يختلف عن حكم المجتمع الكافر ؟

أقول : حسنا .. لا بأس ..

ليبيا اليوم .. من يملك السيادة فيها من حيث المبدأ ؟

هل هو الشعب الثائر الذي استرد وطنه ؟ أم المجلس الانتقالي ؟ أم الجماعات الإسلامية المقاتلة ؟ أم حلف النيتو ؟

الجواب : وفق منطق المعترضين لا أحد من هؤلاء يملك السيادة، إنما السيادة للشريعة فقط، ولهذا لا يحق للمجلس الانتقالي أن يختار الشريعة مرجعية للدستور لأنه لا يملك السيادة، وكذلك الشعب لا يحق له أن يختار الشريعة دستورا للبلاد لأن لا يملك السيادة، فضلا عن الجماعات المقاتلة وحلف النيتو كلهم لا يحق لهم ذلك، فهم لا يمتلكون السيادة .

إذن من يجعل الشريعة مرجعية للدستور ومن يجسد مبدأ ((الإلزام)) في ليبيا ؟

الجواب : الشريعة .. وليس غير الشريعة .. لأن الشريعة ملزمة لا خيار فيها ولا يسع لأحد أن يخرج عن طاعتها !!!

أرأيتم هذا التناقض كيف يثير السخرية والألم في آن !!

هذا التناقض الساخر هو الذي لخّصه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين رفع الخوارج الحرورية شعار : (لا حكم إلا لله) فأجابهم بكلمته الذهبية: (القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال) . فكفرته الحرورية وكفروا الفريقين وكفروا كل من قبل بحكم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص . ولهذا إذا رفع بعض الفضلاء شعار : (لا سيادة إلا للشريعة) .. سنقول لهم بوضوح : (الشريعة لا تنطق إنما ينطق بها الرجال) . وأتمنى حينها ألا ينبري أحد من المندفعين والمتحمسين فيكفرنا كما كفرت الحرورية عليا رضي الله عنه .

المقصود : أن الشريعة عبارة عن منظومة من القيم والمبادئ والأحكام ((الملزمة)) وأؤكد على كلمة ((الملزمة)) وإلزاميتها ليس فقط على المستوى الشخصي (=الحيّز الخاص) بل هي ملزمة على المستوى (العام) فضاء الدولة، ولكن يبقى إلزامها مفتقر إلى من يجسّده في الواقع كدستور وقوانين ملزمة على الجميع . فمن يجسّد هذا ((الإلزام)) في الواقع ؟

الجواب كما سبق معنا : لا يمكن تطبيق الشريعة في المجال العام إلا عبر ((الإرادة والقدرة التي تمتلك السيادة)) وهذه ((الإرادة والقدرة التي تمتلك السيادة)) إما أن تتمثل في الأمة بمجموعها .. أو في حاكم متغلب مستبد .. ليس هناك خيار ثالث .. القسمة العقلية لا تقبل إلا الثنائية .

يهمني أن أنبه هنا أيضاً .. بأن المقصود بالتطبيق هنا: (الإلزام والإجبار) وليس (الامتثال الذاتي)، وإلا فالمؤمن يمكنه أن يطبق الشريعة ليس فقط في المجال الخاص، بل حتى في المجال العام عبر الامتثال الذاتي وبدون سيادة، فهو لا يحتاج إلى السيادة لمجرد الامتثال الذاتي حتى وإن كان في (الحيّز العام)، كما هو حاصل للمسلمين الآن في بلاد الغرب، يمارسون شريعتهم قدر المستطاع في الحيّز العام، ولكن إذا أراد المسلم أن ينقل هذا (الإلزام الذاتي) إلى قانون يلتزم به الجميع في الفضاء العام ؟ فلا بد إذن من السيادة التي تفرز السلطة والقوانين التي تقوم بوظيفة ((الإلزام والإجبار)) .

وهذا السيادة كما قلنا : إما أن تكون بيد الأمة، أو تكون بيد الفرد المتغلّب .

– 4 –

ما مفهوم (السيادة) ؟

لا أريد هنا أن أستعرض وأناقش التعاريف الأكاديمية لمفهوم السيادة فهي موجودة ومثبتة في المصادر العلمية، كالمعاجم القانونية والسياسية، يكفينا هنا أن نستدعي أخصر وأشهر تعريف لها، وهي أن السيادة: “احتكار قوة الإلزام والإجبار” على حدّ وصف هوبز . وهذه القوة إما أن تكون بيد الحاكم الفرد، أو بيد الأمة عبر مؤسساتها المنتخبة .

وحين تكون السيادة بيد (الأمة) أي بمجموعها، فهذا يعني كما يقول روسّو: تتفتت السيادة على الشعب بالتساوي، بحيث لا يختص بها فرد دون فرد . فهي تكون مجزأة بالنسبة لأفرادهم ووحدة كلية بالنسبة لمجموعهم .

ماذا يعني هذا الكلام ؟

أرجو الانتباه هنا .. لأن بعض المعترضين يشعرك من خلال طرحه بأنه لم يستوعب بعدْ مفهوم (سيادة الأمة) بمفهومها القانوني والسياسي، والبعض للأسف لا يريد أن يستوعب .

ما معنى (سيادة الأمة) ؟

أي: أنه لا يمكن أن تنبثق أي سلطة إلا عبر ما يعرف بـ(الإرادة العامة) للأمة، والتي يفرزها مسار (التعاقد) فيما بينها عبر الاستفتاء وصندوق الاقتراع، وبالتالي لا يتم اعتماد دستور الدولة ولا تنبثق كافة مؤسساتها ولا تكتسب سلطاتها الشرعية إلا عبر هذه (الإرادة) .. إرادة الأمة .. وهذه نتيجة حتمية وطبيعية للسيادة التي اكتسبتها الأمة على نفسها وعلى وطنها، بحيث لا يحق لأي فرد أو جماعة أو حزب أن يفتات على هذه الأمة أو ينقلب عليها ما دام أنه قد دخل معها في هذا التعاقد. وإلا فهو ليس ملزم بالدخول في هذا التعاقد، وإذا أراد أن يطبق قناعاته ومرجعيته القيمية فعليه أن يسعى إلى (التغلّب) والانقلاب على الأمة وانتزاع سيادتها وبالتالي يمكنه حينها أن يفرض قناعاته وإراداته دون الرجوع إليها، ودون الاستفتاء عبر صندوق الاقتراع .

بعبارة أخرى: من أراد أن يفرض على الأمة قناعاته ويجبرها ويلزمها دون الرجوع إليها، فعليه أن يسلك مسار (التغلّب) والانقلاب منذ البداية كما هو حال فكر القاعدة وغيرهم من التيارات الجهادية المقاتلة، لا أن يدخل مع الأمة في مسار (التعاقد) ويعاهدها على ما يقتضيه هذا العقد وهو (سيادة الأمة) بمجموعها، ثم يضمر في داخله (التغلّب) والانقلاب متى ما اختارت غيره أو اختارت غير قناعاته .

هذا هو مفهوم (سيادة الأمة) والذي يجب أن يكون واضحا عند المعترضين بدون لغة رمادية أو أساليب موهمة، وبالتالي فعلى المعترضين أن يحددوا مواقفهم بشفافية وصدق وبدون مواربة وتقيّة . هل هم مع (مسار التعاقد) الذي هو نتيجة حتمية وطبيعة لسيادة الأمة على نفسها . أم هم مع مسار (التغلّب) والانقلاب على الأمة متى ما تمكنوا وأصبحت لديهم القدرة والقوة العسكرية ؟

خياران لا ثالث لهما :

إما الخيار الأول .. وهو مسار (التعاقد) .

وإما الخيار الثاني .. وهو مسار (التغلّب) .

ما هو مسار (التغلّب) ؟

أن تكون السيادة بيد الحاكم الفرد المتغلب المستبد، فيفرض الشريعة على الأمة دون الرجوع إليها، بحيث يختار لجنة من الفقهاء والخبراء لكي يضعوا دستورا وفق الشريعة الإسلامية . ثم يتم اعتماد هذا الدستور وفرضه وإلزام الأمة به دون أن تصوّت عليه .. نقول: إلزام الأمة به دون التصويت عليه لأن الأمة لا يحق لها أن تختار مرجعيتها في مسار (التغلّب) . فهي لا تمتلك السيادة، وإنما يمتلكها الحاكم المتغلب .

إذن إرادة المتغلّب هي التي اختارت الشريعة كمرجعية وليست إرادة الأمة .. ولا يصح هنا أن نقول: أهل الحل والعقد، أو جماعة الفقهاء أو الجماعة المؤمنة أو الطائفة المنصورة أو الفرقة الناجية أو النخبة والوجهاء أو هيئة كبار العلماء كما نسمع هذا كثيرا من المعترضين، لأن هؤلاء (النخب) في الحقيقة لا يعيّنهم ويختارهم إلا المتغلّب، فهم لا يملكون السيادة، وبالتالي فسلطتهم مفتقرة إلى صاحب السيادة . إلا إذا تغلبوا بأنفسهم وانتزعوا السيادة لأنفسهم، فحينها يمكنهم أن يعينوا أنفسهم ويقودوا الدولة ويؤسسوا نظامها دون الرجوع إلى الأمة، وسيكون هذا النظام نظاما (تغلبيا) وليس نظاما (تعاقديا) . كحركة الضباط الأحرار بمصر، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والأحزاب الشيوعية كالحزب الشيوعي السوفييتي، والحزب الشيوعي الصيني، والحزب الشيوعي الكوبي ونحو ذلك من الأحزاب الأحادية الشمولية التي تمتلك لوحدها الحق القانوني لإدارة شؤون البلاد ولا يحق للأمة أن تشاركها في هذا الحق، لأنها لم تصل إلى السلطة إلا عن طريق التغلب والانقلاب وليس عن طريق إرادة الأمة .

لابد – عزيزي القارئ – أن نفرز ونميّز وندرك هذه الفروقات الدقيقة بين مسار (التعاقد) ومسار (التغلب)، والتي يريد البعض أن يدفنها، أو يخلط بينها بوعي أو بدون وعي، أو يجعلها في المنطقة الرمادية دون وضوح وبيان .

إذن: إما إرادة الأمة .. أو إرادة المتغلّب ..

أيا كان هذا المتغلب فردا أو حزبا أو جماعة دينية أو لا دينية . المهم أن يكون متغلبا لا تفتقر سلطته إلى إرادة الأمة .

أريد هنا أن أقوم بتفكيك وتحليل ومساءلة هذا (الخيار الثاني) – خيار التغلّب والذي يختاره كثير من المعترضين (وأكثرهم بدون وعي) ما دام أنه يطبق الشريعة في نظرهم . وهل صحيح كما يقولون أن السيادة هنا للشريعة فعلا أم لا ؟

ولكن أتمنى من القارئ أن يأخذ نفسا عميقا، ويركّز معي جيدا، وإذا كان يشعر بالإرهاق الذهني فليتوقف الآن وليكمل لاحقا .. لأننا الآن أمام عمق المسألة .

يقول المعترضون : الحاكم الفرد أو الحزب الفرد أو الجماعة أو النخبة المتغلبة المستبدة تختار الشريعة مرجعية للدستور دون الرجوع إلى الأمة والاستفتاء عليه، وتشّكل لجنة من كبار الفقهاء والخبراء القانونيين لكي يقوموا بصياغة الدستور ثم بعد ذلك يقوم ذلك المتغلّب – فردا أو حزبا – بفرض ذلك الدستور دون الرجوع إلى الأمة، فالأمة لا يحق لها أن تختار مرجعيتها، لأنها لا تمتلك السيادة .

السؤال :

من اختار الشريعة هنا مرجعية للدستور ؟

هل الشريعة هنا اختارت نفسها فعلا كما يتوهم المعترضون ويوهمون غيرهم .. أم المتغلب هو الذي اختارها واختار لجنتها التي صاغت الدستور، ثم اعتمدها بموجب سيادته ؟

من فرض الشريعة هنا ؟ هل هي التي فرضت نفسها بنفسها لأنها (ملزمة) ولأنها لا (خيرة للمؤمن فيها)، أم المتغلب هو الذي فرضها وجسّدها دستوريا ؟

لا أظن عاقلا يتردد في القول بأن المتغلّب (فردا أو حزبا) هو الذي اختار الشريعة كمرجعية . هو الذي جعلها دستورا ملزما للبلاد . نعم الشريعة ملزمة في نفسها من قبل أن يختارها المتغلب، وهي لم تكتسب صفة (الإلزام الديني) باختيار المتغلب لها، ولكن المتغلّب هو الذي نقل هذا (الإلزام) إلى قانون دستوري يخضع له الجميع .

إذن هناك من اختار الشريعة وجعلها مرجعية، وهو الحاكم المتغلب (فردا أو حزبا دينيا أو جماعة دينية)، وليست الشريعة هي التي اختارت نفسها بنفسها كما يتوهم المعترضون ويوهمون غيرهم .

ماذا يعني هذا الكلام ؟

يعني أننا حرمنا الأمة من حق الاختيار لمرجعيتها بحجة أن الشريعة لا تخضع للاختيار والاستفتاء . وفي المقابل سمحنا وقبلنا للمتغلب – سواء كان فردا أو حزبا أو جماعة – أن يختار المرجعية لأنه متغلب ويملك السيادة .. بمعنى آخر: منعنا الأمة أن تختار مرجعيتها عبر الاستفتاء وسمحنا لأنفسنا أن نختار المرجعية عبر التغلب والإجبار .

ثم نقول للأمة : الشريعة لا تخضع لاختيار أحد .. هي ((ملزمة) بنفسها !!

إذا كانت لا تخضع لاختيار أحد فلماذا تختارونها أنتم ؟! هي تختار نفسها بنفسها .

إلا إذا كنتم تشعرون بأنكم (المبعوثون بالعناية الإلهية في الأرض) وأنكم الرعاة الذين يقودون (خراف الأرض) .. وأن الأمة مكلفة بتطبيق الشريعة بمجموعها.. وأنكم أنتم الوحيدون المكلفون بتطبيق الشريعة دون غيركم ؟

أليس هذا تناقضا مؤلما ومزعجا ومحبطا ؟!!

إذن .. المعترضون في حقيقة الأمر – لو تأملنا – هربوا وفرّوا من (سيادة الأمة) إلى (سيادة المتغلب)، وليس إلى (سيادة الشريعة) كما يتوهمون ويوهموا غيرهم .

نحن إذن .. بين سيادتين، إما : (سيادة الأمة) أو (سيادة الحاكم الفرد المتغلب) . ومبدأ (إلزامية الشريعة) لا يمكن أن يتجسد في الفضاء العام إلا بإحدى هاتين السيادتين .

فحقيقة الخلاف بيني وبين المعترضين .. ليس في كون الشريعة حاكمة على الفرد والمجتمع، وليس في أن المؤمن لا خيار له أمام حكم الله ورسوله . وليس في مبدأ (إلزامية الشريعة) الذي هو مبدأ راسخ واضح لا أحد يناقش فيه، ولم تناقشه مقالتي أصلا .

إنما الخلاف كيف يمكن أن نجسّد ونطبق هذا المبدأ دستوريا ؟ أقصد مبدأ (إلزامية الشريعة) كيف ننقله من (التزام ذاتي) على المستوى الخاص إلى (التزام قانوني) على المستوى العام ؟

بأي سيادة تتحقق (إلزامية الشريعة) على الجميع ؟

بسيادة الحاكم الفرد المتغلب القاهر . أم بسيادة الأمة بمجموعها ؟

بعبارة أخرى : نحن والمعترضون نريد أن نطبق الشريعة .. نريد أن نجسّد (مبدأ إلزامية الشريعة) في الواقع .. نريد أن تكون الشريعة حاكمة على الفرد والمجتمع .. لكن المعترضين يريدون أن يجسدوا مبدأ (إلزامية الشريعة) من خلال (سيادة المتغلب) .. ونحن نريد أن نجسّد مبدأ (إلزامية الشريعة) من خلال (سيادة الأمة) .. المعترضون يريدون أن يطبقوا مبدأ (إلزامية الشريعة) من خلال إرادة التغلّب المتسلط ونحن أريد أن نطبق مبدأ (إلزامية الشريعة) من خلال إرادة الأمة الحرة المستقلة .

إذن كلنا نريد أن نطبق مبدأ (إلزامية الشريعة) في الواقع . ولكن بأي سيادة ؟ وعبر أي إرادة ؟

فالنقاش كله في هذه النقطة بالتحديد .. أي الإرادتين أفضل وأبقى وأحفظ للشرع من التحريف والتبديل والتزوير والاستغلال ؟

المعترضون يقولون : عبر إرادة المتغلب .. ونحن أقول : عبر إرادة الأمة ..

هنا محور النقاش بأكمله .

– 5 –

قد يقول المعترضون : ولكن (إرادة الأمة) يمكنها أن ترفض مبدأ (إلزامية الشريعة) ؟

الجواب بكل بساطة :  كذلك (إرادة المتغلب) يمكنها أن ترفض مبدأ (إلزامية الشريعة) .

فنحن إذن بين (إرادتين) .. وكلا الإرادتين ممكنة، فالأمة فعلا يمكنها من حيث الإمكان العقلي أن ترفض مبدأ (إلزامية الشريعة) . وكذلك المتغلب والمتسلط يمكنه أيضا أن يرفض مبدأ (إلزامية الشريعة) .

ولكن السؤال هنا .. أي الإمكانيتين أقرب للتبديل والتغيير ؟

لا أظن عاقلا يشك في أن إمكانية تبديل الشريعة وتحريفها وتزويرها من قبل المتغلب – سواء كان فردا أو حزبا – هي أقوى وأسرع وأكثر وقوعا من إمكانية تبديل الشريعة من قبل الأمة بمجموعها . فالأمم والمجتمعات – وفق سنن الاجتماع البشري – لا تغير قناعاتها وقيمها ومبادئها إلا عبر سنين طويلة بل ربما قرون كما يقول علماء الاجتماع بخلاف الحاكم الفرد المتغلب والذي بيده السلطة المطلقة يمكنه أن يغير قناعاته في ليلة واحدة .. أو أنه يموت ويخلفه حاكم يؤمن بقناعات وقيم ومبادئ مختلفة تماما .

فإذا كان مبدأ (إلزامية الشريعة) يمكن أن يعطّل ويلغى من حيث الإمكان العقلي والواقعي .. سواء من قبل إرادة (المتغلّب) الممكنة أو من قبل إرادة (الأمة) الممكنة .. فأي الإمكانيتين أفضل للشرع : إمكانية إرادة (المتغلب) أم إمكانية (إرادة الأمة) بمجموعها ؟

بعبارة أخرى .. ما هو الأحفظ والأفضل والأضمن لمبدأ (إلزامية الشريعة) أن نجعلها مرهونة بمزاجية وإرادة الحاكم الفرد أو نجعلها مرهونة بإرادة الأمة ؟

هنا زبدة المقالة ..

أرجو وأتمنى من الله العلي القدير ألا يأتي أحدٌ الآن ويقول : (( الشريعة لازمة في نفسها بغض النظر عن إرادة الأمة أو إرادة المتغلب .. الشريعة تفرض نفسها بنفسها )) .. أتمنى ألا يقول أحدٌ هذا ويعيدنا مرة أخرى إلى المربع الأول .. وإلا فإني سألتزم الصمت وأعلن بأني فشلت في إيضاح فكرتي ..

لنكمل ..

– 6 –

يقول المعترض : حسنا .. لو أن (الأمة) رفضت الشريعة .. فما موقفك ؟

الجواب : موقفي أيضاً كموقفك إذا رفض (المتغلب) تطبيق الشريعة ..

سيقول المعترض: إذا (المتغلّب) عطّل الشريعة، فسوف أسعى إلى التغلب عليه إذا ما توفرت لدى القدرة والقوة .

فالجواب : ونحن كذلك، إذا وصل حزب لا يؤمن بمرجعية الشريعة عبر (إرادة الأمة) فسوف نسعى إلى إسقاطه عبر (إرادة الأمة) ونعيد للشريعة مرجعيتها .

بمعنى أوضح .. حين (تغلّب) عليك ذلك الحاكم المتسلط بقوة العنف والسيف وألغى مرجعية الشريعة فسيكون موقفك هو محاولة (التغّلب) عليه بقوة العنف والسيف متى ما توفرت لك القدرة . وحينها يمكنك تطبيق الشريعة .

فكذلك موقفي .. حين يصل إلى السلطة حكومة لا تؤمن بالشريعة كمرجعية من خلال (إرادة الأمة) ثم تقوم بإلغاء مرجعية الشريعة أي تعديل الدستور عبر توفر (الثلثين) .. فسيكون موقفي حينها هو السعي من جديد للوصول إلى السلطة من خلال (إرادة الأمة) ثم  عبر (الثلثين) أقوم بإعادة تطبيق الشريعة ..

أي: لن يكون موقفي هو الاستسلام والرضوخ كما يتوهم المعترضون، بل سيكون موقفي الإنكار والاعتراض مع إقراري بالنتيجة الديمقراطية . ثم بعد ذلك أسعى إلى إعادة تطبيق الشريعة بنفس الطريقة التي تمت بها تنحية الشريعة .

ليس هناك فرق بيننا وبين المعترضين في مثل هذه الحالة .. هم يسعون إلى فرض الشريعة عبر (التغلب) بالعنف والقوة والقتل إن لزم الأمر . ونحن نسعى إلى فرض الشريعة عبر (إرادة الأمة) وبالوسائل السلمية الحضارية .. هم يؤمنون بحاكمية الشريعة ومبدأ إلزاميتها ويسعون إلى تطبيقها وتجسديها بقوة (العنف والإكراه والقتل) .. ونحن كذلك نؤمن بمرجعية الشريعة ومبدأ إلزاميتها ونسعى إلى تطبيقها وتجسديها ولكن من خلال الانتخاب والتصويت والاستفتاء وغيرها من الوسائل السلمية .

 إذن ليس الخلاف حول مرجعية الشريعة .. أو حول مبدأ (الإلزام) في الشريعة .. وإنما حول المسار الذي تنبثق منه السيادة، السيادة التي يمكننا من خلالها أن نخلع السلطة على (مرجعيتنا) التي نؤمن بها . هذه (السيادة) إما أن تنبثق من مسار (التغلب) والانقلاب أو من مسار (التعاقد) السلمي ..

فإذا كان المعترضون يفترضون بأن سيادة (الأمة) قد تؤدي إلى تعطيل الشريعة .. فنحن لا نفترض  بل نجزم ونعلم تاريخيا وواقعيا أن سيادة (المتغلب) أدت وستؤدي إلى تعطيل الشريعة .. وإذا كان المعترضون يعتقدون بوجوب وإمكانية إعادة تطبيق الشريعة عبر مسار (التغلّب) .. فنحن كذلك نعتقد بوجوب وإمكانية إعادة تطبيق الشريعة عبر مسار (التعاقد) .

فليس الفرق في أنهم يسعون لتطبيق الشريعة ونحن لا نسعى إلى تطبيق الشريعة، كلنا نسعى لتطبيق الشريعة، وكلنا نسعى إلى إعادتها لو تم تعطيلها وتنحيتها .. ولكن بأي سيادة وعبر أي إرادة ؟

المعترضون يختارون مسار (التغلب) لكي يفرضوا الشريعة، لكنهم – لا يدركون – بأنه حتما سيأتي (متغلّب آخر) ويعطّل الشريعة، ثم يأتي (متغلّب آخر) فيعيد تطبيق الشريعة، وسيأتي (متغلّب آخر) ويعطّل الشريعة .. وهلمّ جرا .. من تغلّب إلى تغلّب .. من متغّلب يطبق الشريعة إلى متغلّب يعطّل الشريعة.. وهذا ليس كلاما نظريا افتراضيا بل هذا الذي كان يحصل عبر التاريخ .. فالذي كان يحكم عبر التغلب بالعنف والسيف جاء من يخلعه عبر التغلب بالعنف والسيف .. والأمة كانت غائبة .. لا إرادة لها .. ولا تُستفتى .. ولا يُرجع إليها .. ومن أراد أن يحكم ويفرض مرجعيّته ويجعلها ملزمة فعليه فقط أن يتغلب بقوة العنف السيف .. وحينها يمكنه أن يفرض على هذه الأمة ما يريد دون الرجوع إلى إرادتها وإنما إلى إرادته هو .

هذا هو مسار التغلب عبر التاريخ .. والذي يتبناه غالب المعترضين !

الذي نطرحه نحن، ويطرحه كثير من الإسلاميين المعاصرين الآن، علماء ودعاة ومفكرين، هو سلوك مسار (التعاقد) . التعاقد بين الأمة، والذي هو نتيجة لسيادتها على نفسها وعلى وطنها، فيتعاهد كل الشعب عن طريق الاستفتاء وعبر صندوق الاقتراع أنه لا تنبثق أي سلطة إلا من خلال إرادة الأمة . وبالتالي لا يحق لأي فرد أن يفرض على الأمة ويلزمها بشيء إلا عبر (إرادتها) أي (إرادة أغلبيتها) .

– 7 –

ثمة مشكلة عويصة لدى كثير من السلفيين، ولا أقول عموم الإسلاميين، فغالب الإسلاميين قد حسموا أمرهم في هذا، لكن غالب السلفيين على وجه الخصوص، ما زالوا يخلطون بين مسار (التغلّب) ومسار (التعاقد) .. فهم يريدون أن يدخلوا مع الأمة في مسار (التعاقد) – خاصة مع تحولات الربيع العربي – ولكن في نفس الوقت ملتزمين مع أنفسهم وضمائرهم بمسار (التغلب) .. بمعنى آخر يوهمون الأمة (سواء بوعي أو بدون وعي) بأنهم مع سيادتها، ويشاركون في العملية الديمقراطية، ويدخلون معها في مسار (التعاقد) بحيث يعاهدونها بأنه لا تنبثق أي سلطة ولا يصل أحد إلى الحكم إلا من خلال الإرادة العامة للشعب . وقد يصل هؤلاء السلفيون فعلا إلى السلطة عبر هذه (الإرادة العامة)، ويعترف لهم بالفوز جميع خصومهم السياسيين سواء كانوا من الإسلاميين أو الليبراليين أو اليساريين وغيرهم .

لكن هذه (الإرادة العامة) التي قد سبق أن تعاهد وتعاقد السلفيون مع غيرهم بالاحتكام إليها واحترام نتائجها = إذا اختارت فيما بعد حزبا ليبراليا أو يساريا أو علمانيا والذي قد يكتسب لاحقا أغلبية تتجاوز (الثلثين) تمكنه من تعديل الدستور فما هو موقف هؤلاء السلفيون ؟

الموقف الشرعي – بحسب فهمهم – هو نكث هذا العهد والغدر بالأمة التي تعاقدوا معها، والانقلاب عليها لأنها اختارت غيرهم، مع أن غيرهم التزم بنتائجها حين اختارتهم سابقا، لكن حين اختارت غيرهم لم يحترموا إرادتها مع أنهم عاهدوا الأمة سابقا على احترام إرادتها . وبالتالي يتحوّلون – بوعي أو بدون وعي – من مسار (التعاقد) الذي التزموا به وعاهدوا الأمة عليه إلى مسار (التغلّب) الذي كانوا يضمرونه في أنفسهم ويخفونه تقيّة، كما في مثال تجربة  حزب الإنقاذ الجزائري، حين قال أحد قيادي الحركة بعد فوز الحزب في الانتخابات: اليوم انتصرت الديمقراطية واليوم تموت الديمقراطية !!

وهذا لا يمكن أن يكون منهج الإسلام وأخلاق المسلمين، فالمسلمون على شروطهم، وفي الحديث : (يمينك على ما يصدِّقك به صاحبك) ..

ولهذا كنت أقول دائما .. أن أصدق وأصفى وأنقى خطاب سلفي حول السياسة والحكم هو خطاب القاعدة وجماعات الجهاد المقاتلة – بغض النظر عن صوابه وخطئه – لأنهم يعلنون صراحة وبصدق أنهم لا يرون بالرجوع إلى الأمة والاحتكام إليها من حيث المبدأ، بل يرون بالتغلّب والانقلاب مباشرة، حينها سيطبقون الشريعة دون الرجوع إلى الأمة، بل ليسوا بحاجة إلى الأمة لأنها ليست لها فضل لوصولهم إلى السلطة . وهذا هو مسار (التغلب) الذي يؤمن به فكر القاعدة ومن على طريقتها. ولكن للأسف هذا المسار لن يحفظ الشريعة دائما كما يتصور البعض، بل سيأتي (متغلب آخر) كما حصل في التاريخ ويحصل في الحاضر وسيحصل في المستقبل، فيتغلّب وينقلب على هذه الحكومة (القاعدية) ويلغي ويعطّل الشريعة .

لكن عموما فكر القاعدة في هذا المسار – مع خطئه وعدم صوابه – كان واضحا وصادقا لدى خصومهم، لا لبس فيه ولا غموض .

أما غالب السلفيين الآن الذي يرفضون خطاب القاعدة، وهم يرفضونه فعلا، انخرطوا واندفعوا في الممارسة الديمقراطية وهو ما زالوا يخلطون (بوعي أو بدون وعي) بين مسار (التغلب) ومسار (التعاقد) . بل يقول بعضهم بكل صراحة: نحن نشارك في العملية الديمقراطية ليس لأننا نؤمن بمبدأ سيادة الأمة، بل السيادة للشريعة فقط، وإنما نشارك في الديمقراطية بسبب الضعف وعدم التمكّن !!

ما معنى هذا الكلام ؟!! وماذا يقصدون بعدم التمكن ؟!!

معناه بكل صدق أنهم يقولون: إذا تمكنا فاللعبة السياسية حينها تختلف تماما .. بحيث أن السيادة لن تكون للأمة، ولم يكن ندخل في المسار التعاقدي مع الأمة إلا لأننا كنا في مرحلة الضعف وعدم التمكَّن .. فلما وصلنا إلى سدة الحكم وتمكّنا فلسنا بحاجة حينئذ إلى هذه المسار (التعاقدي) الذي لم نلجأ إليه إلا بسبب الضعف .. ولهذا فالسيادة يجب أن تكون للشريعة، والشريعة فقط !! . المضحك والمؤلم هنا؛ هو بأنهم لم يصلوا إلى سدة الحكم والقرار إلا عن طريق (سيادة الأمة) لا عن طريق (سيادة الشريعة) التي يتوهمونها ويوهمون غيرهم بها .. (الشريعة) لم تشارك في الانتخابات وتفوز بنتائج التصويت .. الشريعة لم تؤسس حزبا وتقدّم برنامجا سياسيا .. إنما أنتم الذين أسستم حزبا ووضعتم البرنامج وشاركتم العملية الديمقراطية وفزتم بنتائج التصويت .. أنتم أنتم وليست الشريعة .. وبالتالي لا يصح بأن تتدرعوا بـ (بسيادة الشريعة) وحقيقة الأمر إنما هي سيادتكم لا سيادة الشريعة، فالشريعة لا تنطق – كما يقول علي رضي الله عنه – إنما ينطق بها الرجال . وإذا كان الرجل فلتكن الأمة وليس أنتم فقط، وإذا كنتم تفترضون أن الأمة ستبدل وتغير فأنتم أولى بالتغيير والتبديل منها . إلا إّذا كنتم تعتقدون بأنكم مبعوثون بالعناية الإلهية في الأرض . وأن الأمة ما هي إلا خراف أنتم ترعونها لوحدكم !!

أعترف أن لغتي هنا قاسية وفاضحة، ولكن لابد أن نقول هذه الحقيقة وكفانا ونحن نغطي وندلس ونخادع الأمة، الأمة الآن تثور وتضحي بدماء أبنائها لكي تسترّد حقها في سيادتها على أوطانها، فيجب أن نكون واضحين معها ونعترف لها بكل صدق وشفافية ونقول: أن السيادة ليست لها إنما السيادة لنا ولوحدنا، ولمن كان معنا وعلى خطنا وطريقتنا ومذهبنا، نعم لنا فقط .. هذا هو قول الصدق والأمانة والشفافية ! لا أن نقول: السيادة للشريعة !! .. هذا زيف وخداع وخلط متعمّد .. لأننا نعلم بداهة أن الشريعة لا تحكم إلا بالرجال .

ولهذا حين قلت في مقالتي : (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة) كان الأجدر بالمعترضين أن يقولوا بكل صدق وشفافية : بل (سيادة المتغلّب قبل تطبيق الشريعة) . هنا يكون الاعتراض إذا أرادوا أن يعترضوا . وهنا يكونون منسجمين مع أنفسهم وقناعاتهم، أما أن يسلكوا خطابا رماديا وموهما ويزعمون بأن : (سيادة الشريعة قبل سيادة الأمة) فهذا تزييف للمعرفة وخلط في الوعي ما كان ينبغي لهم أن يفعلوه . وإن كنت أجزم أن كثيرا منهم ما فعلوه إلا بدون وعي وإدراك لمآلاته الشنيعة !!

وأما نحن فموقفنا الشرعي، والذي نعتقده ونفهمه من خطاب الشريعة ومقاصدها، هو كما ذكرناه آنفا: أنه في مثل هذه الحالة يجب علينا شرعا احترام العقد والوفاء بالعهد الذي قطعناه مع الأمة، ما دام أننا قد دخلنا معها بإرادتنا في هذا المسار التعاقدي، وتعاهدنا معها بأنه لا تنبثق أي سلطة إلا عبر (إرادتها الحرة) . هذا لا يعني أننا لا نسعى إلى إعادة تطبيق الشريعة من جديد ! أو أننا والعياذ بالله نجوّز تعطيل الشريعة وإلغائها ! لو كنا نعتقد ذلك لما سعينا إلى إعادة تطبيقها من جديد . ولكننا نسعى إلى إعادة تطبيقها من نفس المسار (التعاقدي) الذي دخلنا فيه مع الأمة .. ومن خلاله سنعيد تطبيق الشريعة مرة أخرى . فلماذا إذن نلجأ إلى مسار (التغلّب) والذي قد يحصل معه الغدر ونكث العهد ونقض العقد والقتل والإرهاب وسفك الدماء والفتنة والخراب .. لماذا نلجأ إلى مسار (التغلّب) ما دام أن مسار (التعاقد) يتيح لنا إعادة تطبيق الشريعة وبشكل أفضل وأسلم وأرسخ !

ونحن في نهاية الأمر مكلفون بتطبيق الشريعة وفق المسار الذي نعتقد بأنه الأمثل والأوفق والأفضل لتطبيق الشريعة . ولسنا ملزمين بالانقلاب ونكث العهد ونقض العقد وسفك الدماء وإرهاب الناس بالسجن والاعتقالات والتعذيب ونحن يمكننا أن نعيد تطبيق الشريعة بطريقة سلمية وحضارية وأكثر إقناعا وتهذيبا للنفوس وترسيخ للإيمان وتحقيق للمقاصد ! إلا إذا كنا نعتقد بأنه لا يمكن أن تتحقق مقاصد الشريعة إلا بالانقلاب والغدر وسفك الدماء ؟!!

نعم يحق لنا أن نسلك مسار (التغلّب) في حالة واحدة . لو أن هناك حزبا انقلب على إرادة الأمة ونكث عقدها وخطف السلطة بالقوة وانتزع سيادتها وفرض إلغاء الشريعة، حينها يحق لنا أن نسلك مسار (التغلب) لكي نحرر الأمة ونسترد سيادتها على وطنها من جديد وبالتالي إعادة تطبيق الشريعة .

– 8 –

وبالمناسبة أريد هنا أن ألفت النظر إلى أن الحديث عن مسار (التغلب) ومسار (التعاقد) هو في عمق الفلسفة السياسية المعاصرة . وهما مساران مختلفان تماما ولا يمكن أن يجتمعا في مسار واحد، لأن كل واحد منهما يشكّل (فضاء سياسيا) أو (إبستيمي) أو (براديغم) أو (نظاما معرفيا) يختلف عن الآخر تماما، وبالتالي كل واحد منهما له فقهه وأحكامه الشرعية. وكثير من المعترضين لم يستوعبوا ذلك بعد، وبالتالي ما زالوا يحاكمون الحاضر بالماضي .

 ولهذا فالباحثون الشرعيون بحاجة ماسة إلى تقديم محاولات جادة وكثيرة لأجل تشكيل (نظرية سياسية معاصرة وفق التصور الإسلامي – من مسار التغلب إلى مسار التعاقد) .. ربما قد أحاول مستقبلا أن أكتب شيئا حول هذا إذا سنحت الفرصة .

لكن لعلنا نكتفي هنا بالإشارة إلى ما ذكرناه آنفا وهو: أن الله عز وجل حين كلفنا بالتزام واتباع الشريعة على المستوي الشخصي الفردي، وكلفنا أيضاً بالتزام واتباع الشريعة على المستوى العام (= فضاء الدولة) . لكنه لم يلزمنا سبحانه وتعالى بطريقة محددة أو بمسار سياسي معين لكي نجسّد ونطبق مبدأ ((الإلزام)) المتضمن فيها . فليس بالضرورة أن نطبق الشريعة من خلال مسار (التغلّب) بل يمكن أن نطبق الشريعة من خلال مسار (التعاقد) . المهم أن نلتزم بأحد المسارين، ونحن قلنا إذا كنتم تفترضون بأن مسار (التعاقد) قد يؤدي إلى رفض الشريعة فكذلك مسار (التغلب) قد يؤدي إلى رفض الشريعة . بل مسار (التغلب) هو الأكثر والأسرع في تبديل الشريعة وتحريفها وتعطيلها وتجربة التاريخ والواقع تشهد بذلك . وإذا حصل وتم تعطيل وإلغاء (الشريعة) – لا سمح الله – فليس بالضرورة أن أعيد تطبيقها من خلال مسار (التغلب) والانقلاب إذا كان يمكن إعادة تطبيقها عبر مسار (التعاقد) .

باختصار شديد :

(( ما أؤخذ بالتغلب فيسترد وفق التغلّب .. وما أؤخذ بالتعاقد فيسترد وفق التعاقد ))

وأخيرا : يمكنني أن أختم هذه المقالة بأنني ما زالت أتمنى أن يستبدل ذلك الشعار الأثير :

(الإسلام هو الحل) إلى شعار (سيادة الأمة هي الحل)

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق